بريطانيا ليست أوروبية

04:17 صباحا
قراءة 3 دقائق
احتل خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي صدارة الاهتمامات العالمية منذ يوم الجمعة الماضية. كان الأمر وما زال يتعلق بمصير أكبر كتلة عالمية سياسية واقتصادية تضم 28 بلداً وأكثر من نصف مليار نسمة (قبل خروج بريطانيا البالغ عدد سكانها نحو 65 مليون نسمة). لكن القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية هي الأهم. فمن بين الدول الثماني الكبار هناك 4 دول أوروبية هي: ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا. وباقتصاد يمثل 56 بالمئة من الاقتصاد العالمي الكلي.
عالم التكتلات والقفز عن الفوارق اللغوية والعرقية والثقافية وتسهيل انسياب البشر والأفكار والسلع مني بخسارة كبيرة مع خروج بريطانيا، التي أبدت منذ البداية ترددا في دخول الاتحاد، حيث تريثت حتى العام 1973 قبل أن تندرج في الاتحاد القاري ولكن مع احتفاظها بعملتها الوطنية ( الباوند/ الجنيه الإسترليني) إلى جانب السماح بتداول العملة الاتحادية اليورو، ومع امتناعها عن الدخول إلى منطقة الشينغن.
في طليعة الأسباب التي حدت ب 52 بالمئة من البريطانيين للذهاب إلى قرار الخروج مسألة الهجرة. والمقصود بها ليس فقط هجرة آسيويين وأفارقة ومسلمين، بل هجرة أوروبيين إليها وبمعدل مليون مهاجر، كما تجيز ذلك قوانين الاتحاد. التفاوت الاقتصادي بين بلدان الاتحاد اجتذب أوروبيين كثراً إلى البلاد ذات المداخيل العالية والتي لا تقتصر على بريطانيا بل تشمل أيضاً فرنسا وألمانيا وإيطاليا وسواها. هذا فضلاً عمن يتم تجنيسهم سنوياً من المقيمين داخل البلاد.
لكن بريطانيا ستفقد مجالاً حيوياً واسعاً، بعد الإفاقة من وهم الاستقلال. (حزب بريطاني يحمل هذا الاسم اطلق جملة الخروج واعتبر النتيجة انتصاراً له). الجنيه تأثر سلباً مع الساعات الأولى لإعلان قرار الاستفتاء. وكذلك سوق البورصة. لكن التأثر السلبي انعكس على بقية الأسواق الأوروبية بعد تفشي موجة من اللايقين حيال مستقبل الاتحاد. ومن الملاحظ أن القوى اليمينية المتطرفة التي تنادي بالتقوقع القومي والانغلاق الثقافي هي التي هللت أولاً لنتيجة الاستفتاء. من حزب الحرية في هولندا إلى حزب الجبهة الوطنية في فرنسا.
سيكون الحدث مدار اهتمام واسع ولن تتوقف التفاعلات، وقد يمتد الجدل لسنوات مقبلة. غير أن البريطانيين بالذات سوف يعيشون لأمد غير قصير تحت صدمة الانقسام العميق الذي يخترق صفوفهم حول مستقبل بلادهم وخياراتها الاستراتيجية. فقد ظهر أن جمهرة كبيرة من البريطانيين تعد بالملايين يبدون حساسية سلبية شديدة ليس نحو العالم الثالث أو الشرق أو جنوب العالم فحسب، بل حيال جيرانهم الأوروبيين. لقد كان أمراً مدهشاً استعمال مصطلحات مثل الانفصال أو الاستقلال لتبرير الخروج، وكأن المملكة المتحدة كانت خلال العقود الأربعة الماضية فاقدة لاستقلالها وخاضعة لإرادة الغير. وهي تعبيرات يراد بها النفخ في الشعور القومي، وتزيين الشراكة على أنها مكسب للآخرين وخسارة قومية للبريطانيين، وهو أمر يتعدى المبالغة إلى تشويه الوقائع والحقائق، وخاصة مع بقاء بريطانيا خارج منطقة الشينغن واحتفاظها بعملتها الوطنية.
وبالنظر إلى التنوع العرقي الذي يسم المجتمع البريطاني وتفاوت المستوى الاقتصادي والاجتماعي بين شرائح هذا المجتمع، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيضيق الخيارات المستقبلية أمام البريطانيين من أصول آسيوية وإفريقية ولاتينية (يبلغ عدد البريطانيين من أصل عربي نحو نصف مليون نسمة). يضاف إلى ذلك الشرائح الضعيفة من مختلف الأعراق والأصول، التي سوف تفقد مجالاً حيوياً للحركة. والأسوأ من ذلك أن التيارات اليمينية والمحافظة عموماً سوف تجد في هذه النتيجة (التي يجري تصويرها على أنها تبرهن على البريطانيين ليسوا أوروبيين..) فرصة لإشعال معركة «ثقافية» حول هوية بريطانيا ومن هو البريطاني، وهي مفاهيم كان قد تم تجاوزها سابقاً لصالح مفهوم المواطنة والمساواة التامة أمام القانون.
بالنسبة لنا نحن العرب الذين نتطلع لشراكة عربية عصرية متطورة، بين دولنا وشعوبنا ومجتمعاتنا، فإن الاتحاد الأوروبي كان وما زال يمثل مصدر الهام وإشعاع، كاتحاد قاري تجاوز صراعات تاريخية بين دوله وشعوبه، كما تجاوز فوارق لغوية وعرقية، وأرسى اتحاداً متطوراً بطريقة تدرجية منهجية استغرقت زهاء نصف قرن على الأقل وحافظ على استقلال دوله، وتوجت بإعلان الاتحاد الذي يسمح لمواطني دوله بحرية التنقل والإقامة والعمل والتملك. ما زال الاتحاد قائماً.
وعلى الأرجح أن الصدمة سوف تؤدي في نهاية المطاف إلى إدراك البريطانيين لمدى خسارتهم، فمن يغلق على نفسه الأبواب لن ينعم بمتعة الاستقلال المزعوم، بل سيكابد العزلة.

محمود الريماوي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"