عادي

عارف الخاجة.. شفافية إيقاعية تدمج العامي بالفصيح

23:43 مساء
قراءة 4 دقائق
عارف الخاجة

الشارقة: يوسف أبولوز

«القَديم ما بِيَعْتَق..» تغني فيروز من شعر جوزيف حرب بالعامية اللبنانية، وهذا صحيح تماماً إذا قرأنا جيداً شعر الثمانينات في الإمارات، بل أي شعر ثمانيني عربي، وهو الذي ظُلِمَ وغُبِنَ على نحو فادح من جانب الكثير من نقاد الأدب العربي، وفي الإمارات بدا أو يبدو هذا الغُبن والتقصير النقدي أكثر فداحة من أي مساحة ثقافية عربية، والحقيقة، أن هناك من يسمي هذا «التقصير».. «قصوراً نقدياً»، وليس تقصيراً، ذلك أن بعض نقاد الأدب لديهم قصر نظر نقدي تجاه تجارب شعرية تستحق القراءة لأنها تحمل الكثير من المسؤولية الأدبية وتحركها طاقة إبداعية حرة ملتزمة بأساسيات قصيدة التفعيلة بخاصة، وتحمل قضايا إنسانية، ووطنية، وجمالية عديدة.

من هذه التجارب الشعرية التي تنطبق عليها أغنية فيروز.. «.. القَديم ما بيعْتَق..» أقرأ لك اليوم مجموعة «علي بن المسك التهامي يفاجئ قاتليه..» للشاعر عارف الخاجة، وتتألف المجموعة من ست قصائد فقط يراوح خلالها الخاجة بحرفية عروضية بين التفعيلة والعمود الخليلي في القصيدة الواحدة، وفي قصيدته الأولى في المجموعة «.. علي بن المسك..» يستخدم تفعيلة «متفاعلن» من البحر الكامل، وأسميها دائماً تفعيلة ثقيلة، وهي في إيقاعها أقرب إلى غرض الرثاء والمديح والحب، غير أن عارف الخاجة هنا يبني قصيدته على رجل أو فتى استشهد في منطقة الجليل شمالي فلسطين، وكان ذلك في العام 1986، أما الميزة اللغوية في هذه القصيدة والتي أراها خصيصة إبداعية حقيقية فتتمثل في تطعيم القصيدة بالعامية الإماراتية التي تقوم على لغة وسطى، كما يقول عارف، بين اللهجة العامية والفصحى، وقد استخدم الشاعر 12 مفردة عامية إماراتية في قصيدته، لا بل استخدم نصاً عامياً من الشعر الشعبي أو النبطي يتلاءم تماماً مع المناخ الملحمي أو الدرامي للقصيدة:

«يفرش فِوادِه دفتر

كل حرف يعلن حَرْبْ

يرفع كل بندر

صَرْخَه تدين الغرب

يا دار عشكَج خنير يحفر ضلوع الصب

يوم اخذلوه العسكر

شكَ ابشكاه الدرب».

فواده: فؤاده، «عشكَج:عشقك»،«خنير:خنجر»،«شكَ:شق»،«ابشكاه: بشقائه وتعبه».

ومما يدل على حرفية عارف في مثل هذا التضمين الصعب للعامية في قصيدة فصحى، أن التضمين العامّي نفسه يجري على تفعيلة القصيدة نفسها«الكامل» أي«متفاعلن»، وفي ذلك مزاوجة إبداعية دقيقة بين الوزنين الفصيح والشعبي لا يدرك الربط بينهما إلا الشعراء المتمكنون من الشعر العربي وبناءاته.. وعارف واحد من هؤلاء الشعراء.

وهنا أسارع إلى القول إن التضمين الشعبي هو عائد للخاجة، فهو صاحب النص الشعبي كما هو صاحب النص الفصيح، ومن هنا ندرك فنّية الجمع بين نصين على وزن واحد: يقول: لي خاصر لي مال

ميّل على خلّهْ

والعمر كلْه طال

شلْ الهوى لهلهْ شل الوطن في البال

والنار مشتعلهْ هذا الوطن موّال

ايشل مِنْ شلّهْ

«لي:إذا»،«شلّ:حمل»،«مِنْ؟: من الذي».

مباشرة بعد هذا المقطع العامي باللهجة الإماراتية، ينتقل الخاجة إلى«مجزوء الكامل» الفصحى: يقول:

بي آهة قمر الندى

في حجلها ويلاه

حَطّتْ على شفة المدى

فصرختُ: يا الله

ثم يعود ثانية إلى العامية الإماراتية في هذا المقطع:

يا هند لو ساعة

نكَرا هو لِدْيار

كم كثرُوا الباعهْ باعوا الوطن بالعار

الروح ملتاعهْ والنفس فيها نار

لا شوف ولا طاعهْ

الا ابكَصاص او ثار

«نكَر: نقرأ»،«ملتاعهْ: بها لوعة»،«لا شوف: لا رؤية ولا قبول»،«ابكَصاص بقصاص».

إن شفافية الشاعر الإيقاعية أو الوزنية أخذت به إلى دمج العامي بالفصيح، ودمج الفصيح بالعامي على وزن واحد، وللقارئ المحترف بقراءة الشعر أو العارف به، أن لا يستغرب هذه الفصحى في العامي، وهذه العامية في الفصيح في قوله:

الرُّوحُ ملتاعهْ والنفسُ فيها نارْ

إن من خصائص عارف الخاجة الإيقاعية أو لنقل الموسيقية «الوزنية» أنه لا – لا يحصر قصيدته في«عروضية» واحدة إن جاز التعبير. إنه شاعر تفعيلات متعددة تجعل لمجموعته الواحدة أكثر من صوت، ولكل صوت روحه ونغمته ورنينه.

من الكامل «متفاعلن» في«علي بن المسك..»، على«فعولن» من المتدارك في قصيدة «وشيطا» وهو واحد من أشهر أمكنة اللهو في الدار البيضاء في المغرب، ثم إلى«فاعلاتن» من بحر«الرمل» في قصيدة «فجأة وحدك تدعو الاحتضار»، وهو وزن لا يستخدمه شعراء قصيدة التفعيلة كثيراً، مع أنه وزن انسيابي، وإذا قلبت «فاعلاتن»، تصبح «مستفعلن»، أي أن ثمة مرونة وحركة في هذه التفعيلة التي استخدمها عارف في مجموعات أخرى له – وفق تناسبية موضوعية تماماً بين الوزن وفكرة القصيدة، أو موضوعها..

قصيدة «الورقة الأخيرة على جدار السؤال» تجري مجرى تفعيلة «فاعلن»، أما مهارة عارف الخاجة القصوى على مستوى الوزن أو ما أسميه «العروضية» فتتمثل في استخدامه البحر الطويل «فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن» ولكن في شكل تفعيلي، أي خارج الصدر والعجز«البيت الخليلي» كما يفعل ذلك في قصيدته:«رماد الاثنين».. هذه القصيدة التي نجد فيها أيضاً براعة الخاجة في «التدوير»، وبخاصة في الفقرة الخامسة من القصيدة.

عارف الخاجة شاعر موسيقى تنوعية، غنائية، خصبة العروض والإيقاع، وهو في ذلك لا يكرر أبداً إيقاعيته هذه المتأصلة فيه، كما لو أنه موسيقي في شاعر أو شاعر في موسيقي.

الناشر اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yc6ams8f

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"