“إسرائيل” والوضعية الرمادية

03:20 صباحا
قراءة 4 دقائق

أضحت النخب السياسية والعسكرية الإسرائيلية ترى أن منطقة الشرق الأوسط برمتها تمر بمرحلة رمادية تتأرجح ما بين حالتي السلم والحرب، ومن المحتمل وفقاً لكل المؤشرات الحالية أن تستمر هذه الوضعية لمدة طويلة من الزمن، ويعتقد قادة تل أبيب أن عليهم أن يستثمروا بصورة ملائمة المرحلة الانتقالية الناجمة عن التحولات الهيكلية الكبرى التي تشهدها بعض دول الطوق، في دعم وتطوير قدرات كيانهم في مختلف المجالات . ويبدو أن السلطات الإسرائيلية عازمة على التعامل بجدية ودهاء مع التطورات التي أفرزها ما أصبح يوصف بالربيع العربي، ويمكنها أن تراهن بالتالي على استمرار حالة ضعف الاستقرار السياسي في الوطن العربي، من أجل إعادة صياغة أجندتها التي تم تعديل رهاناتها بحيث لم يعد فيها مكان لما يسمى: عملية السلام التي باتت تتعامل معها النخبة السياسية الصهيونية بوصفها تمثل ملفاً يتعلق بالدرجة الأولى بالعلاقات الدولية، ولم تعد له أية صلة واقعية بأولويات وملفات السياسة الداخلية .

إن إسرائيل تسعى الآن جاهدة إلى إقناع شركائها الغربيين بأنه لا صلة لها بوضعية عدم الاستقرار في المنطقة، وأن الشرق الأوسط مليء ببؤر التوتر وانعدام السلم الناجمة عن أسباب تاريخية وثقافية عميقة تسبق قيام الدولة الإسرائيلية، وقد صرح موشي ياعلون، أحد أبرز القادة العسكريين السابقين في الجيش الصهيوني، في حديث أجرته معه إحدى المجلات السياسية الدولية: إن هناك شيئاً يجد الغرب صعوبة في فهمه: هو أن السبب الأساسي الذي يقف وراء انعدام الاستقرار في الشرق الأوسط لا يكمُن في الصّراع الفلسطيني الإسرائيلي . هناك في المنطقة ما لا يقل عن عشرين صراعاً آخر من مختلف الأنواع منها: التنافس السنّي الشيعي، الخلافات الداخلية في العراق،، المسألة الكردية، التوترات التي تحدث ما بين لبنان وسوريا، وصراعات أحرى أيضاً ليست لها إطلاقاً أية علاقة بوجود إسرائيل . . . ويفصح هذا الموقف الذي عبّر عنه ياعلون عن وجود رغبة قوية لدى النخبة السياسية الصهيونية الحالية، من أجل استثمار حالة عدم الاستقرار التي تشهدها بعض الدول العربية للتخلص بصورة نهائية من الوضعية التي نجمت عن أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، والتي جعلت الدول الغربية تمارس ضغطاً متواصلاً على تل أبيب من أجل إحراز بعض التقدم في ملف مفاوضات السلام، وذلك حتى لا يؤثر هذا الملف في الحرب التي مازالت تخوضها الولايات المتحدة ضد المجموعات المتشددة وبخاصة على الجبهة الأفغانية .

والواقع أنه من السهولة بمكان أن نبرهِن على أن القسم الأكبر من الصراعات في الدول العربية وتحديداً في لبنان والعراق، هي صراعات مختلقةٌ بصورة كلية أو جزئية من طرف إسرائيل والدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ولا ريب أن التطورات الإقليمية الأخيرة التي جعلت العرب يدخلون في نفق من التجارب السياسية الجديدة التي يكتنفها الغموض نتيجة لعدم وضوح الأهداف وعمق الخلافات المتعلقة بشكل الدولة وهوية المجتمع، من شأنه أن يساعد إسرائيل على التهرب من التزاماتها الدولية، ومن إقناع الغرب أنها تُمثّل - خلافاً لكل ما يشاع - بقعة الاستقرار الوحيدة في المنطقة . وتجد تل أبيب نفسها مدعوة إلى التعبير عن كل ذلك بقولها: إنه نتيجة لرفض الفلسطينيين الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود بوصفها دولة يهودية، ونظراً لعدم وجود، على مستوى القيادة الفلسطينية، شريك جدي وذي مصداقية من أجل تقاسم الأرض وصولاً إلى إبرام سلام دائم، فإن الأوضاع لن تتغيّر على المدى القريب، وبالتالي فإن النخبة السياسية والعسكرية الصهيونية لا تسعى في الوقت الحالي إلى تحقيق السلام مع جيرانها دون إجراء حساب دقيق لمزايا الربح ونسب الخسارة، لاسيما أن السلام والاستقرار أضحيا يمثلان عملة نادرة في المنطقة العربية برمتها .

ويذهب موشي ياعلون في سياق متصل إلى حد التشكيك في طبيعة ومصداقية وجود الدول الوطنية والقطرية في الوطن العربي بقوله: لقد ألحق الربيع العربي تكذيباً كليّاً بالاستراتيجية الغربية التي تمثلت، غداة الحربين العالميتين، في اختلاق وتوجيه كيانات غير موجودة تحت مسمى دول وطنية في منطقة غير مستقرة إلى حد بعيد على المستويين العرقي والديني . لقد برهنت الأحداث الأخيرة أنه لا يكفي إسقاط حكم الدكتاتوريين وتنظيم انتخابات وفق قاعدة الاقتراع العام من أجل تفريخ هويات وطنية هناك حيث لم يسبق أن كان لها وجود يذكر . من الواضح أن هذا القائد الصهيوني يشوه الحقائق ويسعى في اللحظة نفسها إلى طمس الوقائع التاريخية المرتبطة بتأسيس الدول الوطنية في المنطقة العربية، فتأسيسها تم اعتماداً على تشكيلات اجتماعية وثقافية وهوياتية قائمة بصورة حقيقية وفعلية على أرض الواقع، في الوقت الذي تمّ الإعلان عن قيام دولة إسرائيل من فراغ وبصورة هي أقرب ما تكون إلى أفلام الخيال الهوليودي، وجرت بموجب ذلك أكبر عملية تهجير ونقل للسكان في تاريخ العالم من مختلف أصقاع الأرض، ومن مختلف الجنسيات والعرقيات نحو فلسطين التاريخية، لمجرد أنهم يتقاسمون العقيدة اليهودية التي تريد الدعاية الصهيونية أن تخلِق منها جنسية وهوية كافية لوحدها لبناء وطن افتراضي لكل يهود الشتات .

ويمكن القول عطفاً على ما سبق أن هذا الموقف الرمادي الذي عبّر عنه القائد الإسرائيلي في اللقاء الذي أُجري معه، يُفصح بشكل دقيق عن حقيقة الذهنية الصهيونية وعمقها ذات الأبعاد التلمودية الواضحة التي تشتطّ في استثمار دلالات الألفاظ حتى تتمكن من زحزحتها عن سياقاتها الأصلية ومن طمس مرجعياتها . ومن الجلي وفقاً لهذه المحصلة النهائية، أن القيادات الصهيونية باتت مقتنعة بأهمية الاستمرار في المماطلة ظناً منها أن المرحلة الراهنة ليست مرحلة سلام، ويتوجّب العمل بالتالي على خلق ظروف إقليمية جديدة تدفع العرب - مرة أخرى - إلى القبول بما لم يقبلوا به من قبل . ومن غير المستبعد بالتالي،أن يؤدي استمرار الصراع في سوريا وفق هذه الوتيرة المدمّرة إلى قيام إسرائيل باحتلال أراضٍ سورية جديد من أجل إقامة منطقة عازلة، بدعوى الحفاظ على أمنها من اختراقات المسلحين . وهذا ربما ما يدفع ياعلون إلى التأكيد بنوع من الصلف والثقة المفرطة أن الوقت لم يعد يعمل في غير صالح إسرائيل، لأنه أضحى يرى أن كيان دولته هو الآن أكثر صلابة من الدول العربية المحيطة به .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"