عادي

بعيداً عن العالم

23:03 مساء
قراءة 5 دقائق

القاهرة: وهيب الخطيب
تتطلب الكتابة مثابرة وتركيزاً غير عاديين. ونعني بالتركيز حالة معينة من الوعي، وعلى الرغم من عدم سهولة وضع هذه الحالة في كلمات، فإننا يمكننا التعرف إليها فوراً. الكتابة وما تتطلبه من تركيز، قد تدفع ببعض الكتاب أحياناً إلى العزلة، خاصة إن شعروا بالوحدة الشديدة. هنا نتذكر ما كتبته فيرجينيا وولف بشكل مؤثر عن شعور عميق بالوحدة، ليس في العزلة، لكن في الشراكة.

الأمر ذاته نراه في خطاب قبول إرنست همنغواي لجائزة نوبل للآداب، يقول «الكتابة، في أفضل حالاتها، هي حياة وحيدة. لأن الكاتب يقوم بعمله بمفرده، وإذا كان كاتباً جيداً بما يكفي، فعليه أن يواجه الخلود، أو عدمه، كل يوم».

لا يعني جريان هذا الشعور بالمعاناة، سواء كان الكاتب بمفرده أو مع الآخرين، لكنه شعور بالدخول إلى حالة ذهنية أخرى. ولا يمكن أن يكون هناك شك في أن العمل الإبداعي يتطلب ولاءً كاملًا، إخلاصاً لا تشوبه شائبة، وهو ما يمكن أن ينطبق عليه المثل السائر «كالفريك، لا يحب الشريك».

سؤال

في مقالة شهيرة، يتوقف الروائي والمترجم الإسباني الكبير خافيير مارياس أمام علاقة الكتاب بالعزلة، محاولًا الإجابة عن سؤال لماذا يعتزل الأدباء والمثقفون؟ ليؤكد قبلها أن معظم الكتاب يميلون إلى الشعور بالعزلة أو في الواقع ينشدون العزلة، ولا سيما بعد بلوغ سن معينة. إذاً، هي غاية أحياناً، وهدف يسعون إليه سعياً.

يضيف مارياس أنه «ربما لم تكن هذه حال الكتاب في طور البداية، وعلى الأخص بين أولئك الكُتاب الذي شرعوا في الكتابة والنشر في سنّ مبكرة. في بواكير الشباب يتحمّس المرء إلى الانضواء تحت لواء جماعة أو جيل أدبي جديد ويُفترض أنه يقدم جديداً. غالباً ما نحمل شعوراً بالازدراء إزاء أسلافنا، وعلى الأخص من أبناء جلدتنا ومَن يكتبون بنفس لغتنا، فنتحيّز ضدهم، ونعُدّهم مغرّدين خارج السرب، وأنهم موضة قديمة، فاقدين أي شعور التعاطف معهم، ومسارعين إلى إقصائهم. كما أننا غالباً ننكر، في ظلمٍ بيّن، أي قيمة لأعمالهم ونعدّها مجرد غلطة في تاريخ الأدب، مصيرها النسيان المحقق قريباً. يقفز الكُتاب الشباب متجاوزين جيل الآباء، مستعيدين جيل «الأجداد» الذين يراهم الشباب ضعفاء لا يشكلون أي تهديد لهم، وفي حالة تراجع».

لكنّ هذه الحالة لا تدوم، ويفسر مؤلف «الرجل العاطفي» أسباب الميل إلى العزلة ب«الشعور بأن تكون نسيجاً وحدك بدلاً من أن تكون مجرد عضو قابل للاستبدال داخل جيل أدبي أو جماعة أدبية، بل حتى بدلاً من أن تكون ابن عصرك». ولهذا السبب يحتاج الكاتب إلى عزل نفسه.

ليس ببعيد عن مارياس الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث في كتابِه «متاهة العزلة»، إذ يرى أن إحساسنا بالحياة يعبر عنه كانفصال وقطيعة، كتيه وسقوط في بيئة معادية وغريبة، وبقدر ما ننمو، بقدر ما يتحول هذا الإحساس البدائي إلى شعور بالعزلة، وبعد ذلك إلى وعي، فنحن محكومون أيضاً بتجاوز عزلتنا، واستعادة الصلات التي كانت تربطُنا بالحياةِ في ماضٍ فردوسي.

صوت

ويتقاطع حديث مارياس وباث مع رؤية الفيلسوف الألماني نيتشه عن العزلة التي تسمح بتطوير صوت الكاتب المميز، ورؤيته الخاصة، أي أنه «لا يشرب من خزانات الآخرين» بتعبير نيتشه، «عندما أكون من بين كثيرين أعيش مثلهم، ولا أفكر كما أعتقد حقاً؛ بعد فترة من الوقت، بدا الأمر دائماً كما لو أنهم يريدون إقصائي من نفسي وسرقة روحي وأنا أشعر بالغضب من الجميع وأخاف الجميع».

قوة

«من لا يحب العزلة لا يهوى الحرية» هكذا فهمها الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، وقلائل هم من يتلمسون بالتجربة حريتهم البادئة عند نهاية أعتاب الآخرين. وقديماً قالوا في مديحها إنّها تقي العرض وتبقي الجلالة وتستر الفاقة وترفع مؤنة المكافأة في الحقوق الواجبة.

وهي أيضاً استجواب للعالم ومساءلة للكون، «أن تحب العزلة يعني أن تكون قوياً» بوصف الفنان الإيطالي بيير باولو بازوليني. إفصاح عن الرغبة، أشكال مختلفة من الصوت للتعبير عن الذات. ملاذ من ضغوط عالم العمل، ثاني أركان التصوف بعد الصمت، قلاية راهب تغنيه وتستكفيه، سعي لتشييد المملكة الخاصة بالاعتزاليّ بعد أن يشهر في وجه الجميع «مملكتي ليست في هذا العالم».

عربياً، سبق أن توقف الروائي المصري نجيب محفوظ 7 سنوات عن الكتابة بعد أن انتهى من الثلاثية عام 1952 حتى العام 1959، وفي حواره مع الأديب جمال الغيطاني المنشور في كتاب «نجيب محفوظ يتذكر» كشف صاحب نوبل أنه مرّ بأزمة مالية بعد زواجه، وبات مسؤولًا عن 3 أسر هي زوجته ووالدته وشقيقته المتوفى زوجها، وترك الرواية وعمل سيناريست كون العائد المادي أفضل من مردود الكتابة الروائية، قبل أن يعود للسرد بروايته «أولاد حارتنا».

وبعيداً عن هذه العزلة، محفوظ نفسه، يمكن أن يتخذ مثالًا على الكتابة حتى الرمق الأخير، فرغم تعرضه لحادث اغتيال في أكتوبر/ تشرين الأول، 1995 بالطعن وهو في الرابعة والثمانين من عمره، فقد واصل الكتابة حتى أصدر مجموعته «أحلام فترة النقاهة» 2004 وهو في الثانية والتسعين من عمره وقبل رحيله في العام 2006 بعامين فقط.

وكما فرضت جائحة كورونا عزلة على الجميع خلال الأعوام الماضية، سبق أن فرض الطاعون عزلة على بعض الكتاب العرب، منهم ابن الوردي، الذي عاش في حلب ودمشق وبلاد الشام، وقت تفشي وباء الطاعون «الموت الأسود» خلال منتصف القرن الرابع عشر من آسيا إلى الشرق الأوسط ثم إلى أوروبا، وكان حينها يعيش في حلب عندما وصل الطاعون عام 1349 إلى هناك، وظل يفتك بالمدينة، ما أسفر عن موت نحو ألف شخص كل يوم، واستفاد من هذه العزلة الإجبارية للتفرغ للإبداع.

ولعل الأشهر من ابن الوردي، شيخ المعتزلين وسيد الكتاب الذين آثروا العزلة، أبو العلاء المعري، وهي العزلة التي يراها البعض اضطرارية بسبب العمى، أو اختيارية كرأي طه حسين، فالأمر جرى بإرادة المعري، وهو الذي كان بإمكانه مخالطة الناس والالتقاء معهم.

مخاطر

تحت عنوان «حنين هذا المكان بلا سقف الأبدية»، تكتب المحررة والكاتبة النسوية جان فورتشن أنه «يمكن أن يكون التدفق في العزلة محفوفاً بالمخاطر»، وتحاول أن تشرح هذه المخاطر، فالعزلة «تتركنا منفتحين على مصراعيها مع مواردنا الخاصة فقط لنعتمد عليها»، قبل أن تستدرك«لكنها أيضاً حالة خصبة».

إذن في العزلة لا شيء معك إلاك، لا موارد إلا ذاتك، ولا سند إلا نفسك، وهو ما تحذر منه تقارير علمية، فالانعزال قد يولد ضغوطاً نفسية وجسدية لكثير من الناس، على المدى الطويل، كما يمكن أن تؤدي الوحدة إلى أمراض خطيرة مثل الاكتئاب وأمراض القلب والأوعية الدموية أو الزهايمر.

نسيان
تقول الفنانة أجنيس مارتن: «تحدث لك أفضل الأشياء في الحياة عندما تكون بمفردك. لكن هذه الرغبة في العزلة التي تعمل فيها لم تكن أبداً ذات مظهر داخلي أو تغذيها الأنا. أسوأ شيء يمكن أن تفكر فيه أثناء العمل هو نفسك. العزلة هي حالة يمكننا من خلالها نسيان الذات».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdzacbc2

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"