الفرد والمؤسسة.. مرة ثانية

00:25 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. مصطفى الفقي

كتبت منذ سنوات دراسة ضافية عن العلاقة التبادلية بين الفرد والمؤسسة وتأثير كل منهما في الآخر، محاولاً الإلحاح على العلاقة بين الفرد مهما كان دوره والمؤسسة كيفما كانت مكانتها، خصوصاً أنني مقتنع أن تلك العلاقة تنعكس بالضرورة على مدى النجاح في المواءمة بينهما، وأشعر كذلك بأن طغيان الفرد على المؤسسة أمر في غير صالحها، كما أن اختفاء الفرد في عباءة المؤسسة ليس في صالح الاثنين معاً، وأنا أقيس الأمر على كافة المؤسسات والأفراد بدءاً من الدولة ذاتها كمؤسسة كبرى والفرد بتأثيره المتفاوت في إدارة المؤسسة وتحريك أمورها.

وأرى أن الجانب الشخصي في تكوين الفرد إنما يلعب دوراً مؤثراً في تحريكها، وفي وزارة الخارجية المصرية - على سبيل المثال - مرت أسماء كثيرة ولكن إسماعيل فهمي وعمرو موسى يتصدران قائمة الشهرة بالبصمات التي تركها كل منهما، وفي القضاء أيضاً فهناك أسماء مثل عبد العزيز فهمي ووجدي عبد الصمد، وفي الجامعات أحمد لطفي السيد وطه حسين، وفي فقهاء القانون السنهوري باشا.

هذه الأسماء كلها تختلط بالمؤسسات التي أقاموها أو شاركوا فيها لتعطي الفرد قيمته الحقيقية ومكانته اللائقة. وعندما نرتفع إلى أعلى مراتب الدولة فإن مصر العصر الملكي تختلف عن مصر الناصرية وربما عن عصر السادات وخليفته مبارك، وهم جميعاً يختلفون عن العصر الحالي الذي يمثله ويتصدره الرئيس السيسي بدءاً من ظهوره وبزوغ نجمه عام 2013 حتى الآن وهو يتهيأ لانتخابات رئاسية قادمة. ولم نسمع عن حاكم في تاريخ البشرية ذكره الناس بالخير فقط غير الأنبياء والمرسلين وأصحاب العصمة الروحية والدينية، أما البشر فهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وتنسحب عليهم كل محاولات التفكير العميق والتدقيق الواعي، ونحن هنا في مصر شهدنا من كل عصر مقتطفات من الأمجاد والنكسات.

ولو تأملنا مصر الحديثة، فإن محمد علي بإنجازاته الضخمة وأعماله الكبيرة وفتوحاته الواسعة هو وابنه إبراهيم، لم يشفع لهما ذلك في نسيان مذبحة القلعة أو الاستئثار بالسلطة وإقرار مبدأ توريث الحكم، والخديوي إسماعيل بإنجازاته الباهرة وثورة التحديث الكبرى التي انتشرت في ربوع البلاد، لم تشفع له هو الآخر في أزمة الديون التي كانت مقدمة محسوبة للتدخل الأجنبي، وفؤاد رغم جهامته إلا أن له إنجازات في التعليم والجامعة والمتاحف والجمعيات العلمية، وفاروق رغم فساده الأخلاقي وإدمانه الميسر إلا أنه كان وطنياً مصرياً يكره الاحتلال البريطاني حتى النخاع، وعبد الناصر بقامته القومية السامقة وتاريخه العريض لم يبرأ من تداعيات نكسة يونيو عام 1967، وإحكام التضييق على الحريات في عصره حتى لو حدث ذلك بمفهوم نسبي للمصلحة العليا، إذ إن نظرية (الديكتاتور المصلح) لم تدم طويلاً في كل مكان استقرت فيه.

أما السادات وهو رجل دولة بلا جدال إلا أنه استسلم لبعض القوى السياسية التي كان على يديها نهاية حياته، رغم مساحة الحرية التي حاول أن يعطر الواقع السياسي بها، أما مبارك فقد كان رجل التوازنات الذي يؤمن أن مسؤوليته الحقيقية هي تسليم التركة كما تسلمها بلا نقصان، وأن يقوم بعملية مواءمة للظروف القائمة في كل وقت، ثم جاء الرئيس السيسي بتجربة عسكرية خصبة وعقلية تؤمن بالأمن السياسي والمضي في القطار الذي لا ينظر وراءه، ولا بد أن نعترف أنه قد حقق إنجازات ضخمة على الأرض، فيما يمكن تسميته (الهارد وير) Hardware وبقي عليه أن يستكمل ما بدأه فيما يتصل (بالسوفت وير) Software، الذي يدور حول التعليم والصحة ومستوى المعيشة ومحاربة الفقر والتمسك بأولويات المطالب الجماهيرية، وأظنها أجندة ذلك الحاكم الوطني في مستقبل أيامه. وهكذا نشهد أن بصمات الفرد على المؤسسة تبدأ من الدولة وتنتهي عند أصغر كيان سياسي أو إداري في ربوع الوادي.

إن علاقة الفرد بالمؤسسة أو حتى الحاكم بالدولة هي علاقة تبادلية، قد لا يكون هناك إجماع حولها، ولكن يبقى هناك يقين داخلي يحدّث صاحبه بأن الطريق الذي نمضي فيه لا بديل عنه حالياً، وأن البناء لا بد أن يكتمل رغم أن المعاناة سوف تبقى ولو إلى حين، وأن ثمن بناء دولة يبدو فادحاً في كل وقت، وسوف تبقى العلاقة بين الفرد والمؤسسة في مصر علامة مضيئة لإرشاد أصحاب القرار وبوصلة للمواطن العادي عندما يقف أمام محنة الاختيار!

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4w9ts3k2

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"