سنوات الحسم

00:18 صباحا
قراءة 4 دقائق

نعيش مرحلة الخيارات الأهم في سياسات ومستقبل الدول العظمى، ودول أخرى متأثرة بها، أو مرتبطة بخيار أو آخر من هذه الخيارات. والساحة الدولية معبّأة هذه الأيام بدخان كثيف وغبار أثارتهما سباقات نحو التسلح في شمال أوروبا، وشرق آسيا، وأخرى نحو الثروات والقواعد في إفريقيا، وجنوب المحيط الهادي، والشرق الأوسط، وشرق آسيا. وتجري السباقات حتى الآن مدفوعة بطاقة ضئيلة من العنف، ولكنه العنف المرشح للزيادة طالما بقيت الأهداف المبتغاة غير محددة الحدود، وطالما استمرت المنافسات الاستراتيجية تخضع لحسابات في أغلبيتها غير منطقية.

ومن بين ما يستحق التوقف عنده في هذه اللحظات الحرجة من التصعيد الحادث على صعد كثيرة، متابعة المسافة التي لا تزال تفصل بين خيارين أتصورهما مطروحين بشدة أمام صناع السياسة في أمريكا. خياران لا يتساويان، ولا يتوازيان. الخياران هما أن تستعيد أمريكا دورها فتقيم نظاماً دولياً متعدد أو ثنائي القطبية، تقوده من موقع متميز، والثاني، ولا يطرح كخيار إلا في حال فشل الخيار الأول، ويقضي أن تساير الصين وتقيم معها نظاماً دولياً تحكمه قواعد تناسب ظروف التحول في توازنات القوة الدولية، كما فرضت نفسها على أرض الواقع.

لا تزال واشنطن تعيش أمل أن تستعيد مكانتها التي كانت تحتلها في النظام الدولي الذي أثمرته ال،حرب العالمية الثانية. هذا النظام خططت له أمريكا ولعبت الدور الأساسي في إخراجه، ونصبت لنفسها مكانة خاصة مكافأة لنفسها على جهدها في الحرب ضد دول المحور. جمعت كل الدول الكبرى حول مبدأ المساواة أمام الميثاق والرأي العام العالمي، مع اعتبار الولايات المتحدة العضو البارز، أو الأفضل بين المتساوين. المبدأ نفسه سحبته لينطبق على هياكل ونظم العمل في الحلف الأطلسي. تتساوى مع فرنسا وكندا في عضوية الحلف، ولكنها يجب أن تظل في نظرهما العضو الأول والأولي بالهيبة. تعيش على الأمل، ولكنها، والحق يقال، تعمل بشغف ليتحقق لها هذا الأمل. ما زالت تنتج نخباً سياسية مشبعة بفكرة الدور التاريخي لأمريكا في القيادة والهيمنة. وأدركوا في واشنطن، كما أدركنا جميعا، أن الصين الجديدة على أي مستوى من مستويات القوة الدولية لا يمكن إلا أن تكون قطباً من أقطاب القيادة. وجرت محاولات، ولا تزال تجري محاولات أخرى الغرض منها الضغط على الصين بالحصار والمقاطعة لتقبل بعضوية في نظام دولي متعدد الأقطاب، بشرط الاحتفاظ لأمريكا بمكانة العضو الأول.

وبفضل هذه المكانة المتميزة لأمريكا على قمة نظام دولي متعدد الأقطاب، أو ثنائي القطبية، استطاعت الولايات المتحدة الاحتفاظ بهيبتها ومكانتها، بل وتنميتها خلال الحرب الباردة، ليصبح ممكناً لها إضعاف القطب السوفييتي وإخراجه نهائياً من معادلة القيادة، وربما استطاعت فرض انفراطه. وعززت مبدأ الحصار حول روسيا وإمبراطوريتها الشاسعة، وأقدمت على مصالحة تاريخية مع الصين هدفها الأكبر ضرب معنويات إمبراطورية سوفييتية أنهكتها بيروقراطية ثقيلة، ثم سعت لإدخال جيوشها حرباً يائسة في أفغانستان استمرت عشرين عاماً، وانتهت كما بدأت، بطالبان في السلطة. وفي النهاية، ومع بزوغ القرن الحادي والعشرين حققت واشنطن حلم الأجيال عندما انفردت بقيادة النظام الدولي، وفي الحقيقة اجتمعت لها مكونات هيمنة، بدت، في ذلك الحين، كافية لتكون مطلقة.

لم يكن انفراد أمريكا بالقيادة نعمة كاملة، بل مرحلة لعلها من بين الأسوأ في التاريخ السياسي الأمريكي. ففي خلال ربع قرن من الهيمنة الأمريكية، المطلقة أو شبه المطلقة، أو ربما بسبب أخطاء جسيمة ارتكبتها خلال ممارسة هذه الهيمنة، فقدت أمريكا بعض مكانتها، وكثيراً من هيبتها. تأثرت الهيبة بقسوة، عندما تعرضت رموز الحضارة الأمريكية في كل من نيويورك وواشنطن للتدمير. بعدها دخلت أمريكا حرباً ضد العراق، وحرباً في أفغانستان خرجت منهما في وضع استراتيجي ومعنوي غير طيب، وأقل شأناً. دخلت الحربين بغير تخطيط جيد من ناحية، ومندفعة في أعمال حربية انتقامية غير محسوبة من ناحية ثانية، ومدفوعة بالعواطف المتشددة من جانب «شلة المحافظين الجدد» من ناحية ثالثة، وفي الوقت نفسه مستجيبة لمصالح اقتصادية غير مجزية العائد.

أخطأت أمريكا المنفعلة بهوس الانحدار وتراجع المكانة، كما ظهر واضحاً في شعارات حملتَي ترامب وبايدن الانتخابيتين، قبل أربع سنوات. أخطأت، وتخطئ، منذ أن قررت العودة للاهتمام بالشرق الأوسط انطلاقاً من التزام جديد وأقوى بحماية مصالح الأقلية الصهيونية المهيمنة أكثر فأكثر على مفاتيح السياسة الأمريكية، ومواقع القوة في منظومة الحزبين والحكم في أمريكا. ونعرف، ويعرف المتابعون لأحوال الشرق الأوسط، عواقب واقعة ومحتملة لهذا الخطأ المتجدد على مستقبل السياسة في المنطقة.

ومرة بعد أخرى يكتشف الأمريكيون أن النقص في مكانة أمريكا شجع دولاً عدة، صغيرة وكبيرة، على حد سواء، على رفض أسلوب الإملاءات في علاقات أمريكا مع حلفائها. وأتصور، بناء على ما حدث فعلاً خلال الفترة الأخيرة، أن دولاً أكثر سوف تقوم بتنويع علاقاتها الخارجية.

وغير خاف خطورة ما تمارسه أمريكا من سياسات تجاه الهند، وإعدادها لدور كبير في نظام دولي جديد. أحس بالخطورة في كل مرة ناقشت فيها الأمر مع من يعرف الهند ونظامها السياسي. تحاول أمريكا جذب الهند كمنافس للصين في آسيا، مع كل ما يعنيه هذا التوجه من دفع للهند نحو اقتصاد متعسكر، على حساب تنمية اقتصادية الهند في أشد الحاجة لها في ضوء كثافة الفقر، وتنوع مصادره الإثنية والطائفية والبيئية.

ولا يغيب عنا أن بعض الحركات السياسية ينبئ بأفكار وخرائط جديدة لمنطقة الشرق الأوسط قد يجري طرحها قريباً. منها ما طرح بالفعل، وتجري مناقشته، ثنائياً أو ثلاثياً. يفيد في هذا الشأن الاعتقاد السائد في الغرب بأن تبقى الدول «الفاشلة» و«المقسمة» و«المنهكة» على حالها لفترة قد تطول، ويفيد أيضاً بأن تبقى منظومة العمل العربي المشترك مجمدة إلى حين تتضح للشرق الأوسط الجديد معالم وعلامات ما زال أكثرها غير واضح تماماً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2kmkemrc

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"