خطوط التباس

00:08 صباحا
قراءة دقيقتين

انمحت، فجأة، خطوط التماس، وانفتحت نيران الهاوية التي لا يدرك معظمنا مداها، وإن كانت النتائج حتى الآن تكفي أثماناً باهظاً دفعها آلاف من أرواحهم، ويدفعها ملايين تتنازعهم جروح النفس والجسد وتقودهم الأقدار نحو تغريبة جديدة يغادرون فيها، على خطى من سبقوهم، الأرض، أو ما بقي لهم منها، والذاكرة. وحتى إذا احتفظوا بالمفاتيح بالقرب من القلوب وعادوا يوماً، فلن يجدوا البيوت التي تركوها ولا الشوارع التي تؤدي إليها، فالجغرافيا تنصهر، والتاريخ ليس قادراً على إنصافها في كل وقت.

مآلات ما يجري تفرض بالضرورة البحث عن المقدمات، وتلك مهمة شاقة. أنقف عند النكبة الأولى، أم قبلها؟ أنستعيد نُسخها التي لا تحصى، أم الضمير العالمي الأعور؟ أنحمل على الذي بدأ بالتصعيد هذه المرة، أم نغيث الضحايا: ضحاياه وضحايا الطرف الآخر؟

أنعتصم بالسلم الذي جنحنا إليه طويلاً آملين أن يكون عاصماً من دمار للجميع، أم نصفق لمن يدقون طبول الحرب بالأصالة أو الوكالة؟

هي خطوط التباس أكثر من كونها أسئلة. ربما يرى بعضهم أن طرحها في هذا الوقت رفاهية، وتلك نقطة أخرى مربكة، لكن ما حيلتنا وقت اختلاط الحابل بالنابل، والواقفون بالتهم الجاهزة أكثر من العقلاء الذين تكاد أصواتهم تضيع وسط الشائعات، والشعارات، والشاشات النازفة؟

لا تملك، ومعك كل إنسان ذي مبدأ وخُلق، إلا أن تهرع لإغاثة أشقائنا في غزة، وليس العرب في حاجة إلى قانون دولي أو اتفاقات ليقوموا بهذا الواجب، فالبوصلة مضبوطة منذ بدايات الجرح على فلسطين وأهلها، وإن تبدلت الوسائل مع مقتضيات كل عصر.

وهذا الواجب لا ينقص منه أن يتساءل بعضهم: ألم يكن في حسبان من أشعل الشرارة الأولى كل هذه العواقب؟ هل الأثمان التي تُدفع كل لحظة لم تكن في ذهن من حرّك ثبات الوضع قبل السابع من أكتوبر، فكيف تحسّب لها؟

والمتسائل هنا لن يسلم من ردود مخّونٍ أو حتى شخص حسن النية خلاصتها أن من تُحتل أرضه يجوز له ما لا يجوز لغيره، وليس له إلا أن يبذل كل ما يملك لاستعادتها. وتلك مساحة أخرى للارتباك والجدل، فلا خلاف على وجود الاحتلال ولا ممارساته في حق الفلسطينيين، لكن القرار الفلسطيني ليس حكراً على حركة أو تيار، وما ينبغي لمجموعة أن تفجّر منطقة وتضع مصير الملايين في أيدي من يفسر المفردات على هواه، فيكون المدني لديه بمعنيين، والحق باطلاً، وصاحب الأرض مطالباً بالرحيل.

استمراراً للمأساة الدائرية والالتباس، سيعيدك بعضهم إلى استفزازات جديدة وقديمة بحق المقدسات حذّر منها كثيرون مخافة أن تخرج الأمور عن طور التعقل، وأنه كان لا بد من طوفان باسم الأقصى.

ما لا لبس فيه، أنه لا يمكن لعربي حقيقي أن يجادل فلسطينياً في حقه بأرضه، ولا أن يتقاعس عن نُصرته وقد ألقاه الطوفان من شمالٍ إلى جنوب، لكن من يُسأل عن هذا؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yc7zxdy5

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"