الغرب بين الحاضر والمستقبل

00:23 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

يواجه الغرب في المرحلة الراهنة تحديات صعبة على جميع المستويات سواء ما تعلق منها، بالجوانب المجتمعية والاقتصادية والسكانية وملفات الهجرة وتزايد قوة الحركات اليمينية المتطرفة، إضافة إلى وصول الأحزاب الشعبوية إلى السلطة في العديد من الدول الغربية كإيطاليا، الأمر الذي يجعل مستقبل الغرب يبدو غامضاً بسبب بروز مؤشرات انتقال مركز ثقل العالم من الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، إلى شرق آسيا بقيادة الصين واليابان وكوريا الجنوبية.

يسرد الباحث بول غودوفرود أهم المشاكل التي يعانيها الغرب بقوله، إن هناك نقصاً وتراجعاً غير مسبوق في نسبة المواليد بموازاة ارتفاع نسبة المسنين، وضغط متزايد لموجات الهجرة من الجنوب، وهناك أيضاً انتشار إحساس غريب بالتعب من الحياة الذي انجر عنه تباطؤ في النشاط والحيوية لدى الأفراد؛ وكأن الغرب دخل فعلاً في دوامة تكاد تخرِجه من سيرورة التاريخ، في سياق تأرجح بين قوة الحاضر والشك في معطيات المستقبل؛ لاسيما وأن الأجيال الجديدة لا تملك قوة التحمل والإصرار للتغلب على الصعوبات التي كانت تمتلكها الأجيال السابقة، التي تجاوزت محن الحروب وحققت التقدم الصناعي والثورة التكنولوجية.

ومن الواضح أن الدول الغربية تعاني في مجملها انعدام الاستقرار السياسي، ففي فرنسا فقد ماكرون قاعدته الشعبية قبل انقضاء نصف مدة ولايته الرئاسية، وتسعى المعارضة الشعبوية إلى توظيف ورقة المهاجرين لصالحها حيث استعاد إريك زمور ذاكرة القرون الوسطى في اسبانيا لصالحه، عندما تحدث عن معركة الاستعادة، أي استعادة جزء من تراب الدولة من المهاجرين الرافضين الانصياع لقيم الجمهورية الفرنسية؛ وفي بريطانيا يعاني المحافظون من آثار الأزمة الاقتصادية رغم استقالة جونسون وتراس، كما يواجه التحالف الهش الحاكم في ألمانيا صعوبات كبيرة في مسعاه الهادف إلى فرملة الصعود القوي لأقصى اليمين؛ أما في أمريكا، فإن لعبة الفضائح السياسية التي يديرها بايدن وخصمه ترامب، باتت تؤثر بشكل سلبي في استقرار مؤسسات الدولة، وتضعف بشكل واضح هيبة واشنطن أمام خصومها في الشرق.

ويطرح التيار الشعبوي بشكل ملح معضلة اندماج الأجانب في المجتمعات الغربية، وهو ما يشكل برأيه تحدياً وجودياً بالنسبة لمستقبل الهوية القومية للدول الغربية، وتحديداً عندما يرفض الوافدون الجدد قيم المجتمع الذي يستقبلهم، ويتحوّل بذلك النقاش حول الهوية إلى حصان طروادة في كل المعارك الانتخابية التي تدور رحاها في أكبر عواصم الغرب. ومن ثم فإن الرهان على موضوع الهوية لا يعني بالضرورة وجود أزمة حقيقية على مستوى التمثلات القومية وعناصر الهوية الوطنية، وإنما يهدف في المقام الأول إلى إبراز مقدار التخوّف والرفض لقيم وثقافة الأجانب.

فضلاً عن ذلك، هناك أزمة كبرى في الغرب على مستوى المجتمع، إذ إنه وعلى الرغم من أن الدول الغربية كان لها السبق في دراسة الظاهرة الاجتماعية مع ميلاد العلوم الاجتماعية وتطورها في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وأمريكا، إلا أن النزعة الفردانية كانت ومازالت هي المهيمنة على المشهد العام؛ فمن خلال الثنائية القائمة بين الفرد والجماعة، يجد الفرد دائماً حظوة خاصة على حساب الجماعة في أوروبا وأمريكا الشمالية. صحيح أن هذه الحظوة ومن ثم هذه الأسبقية استطاعت أن تُسهم في تطوير منظومة حقوق الانسان في الغرب والعالم على حد سواء، لكن الشيء إذا زاد عن حدِّه انقلب إلى ضدّه.

ويشير المتابعون للمسألة المجتمعية في أوروبا الغربية وأمريكا، إلى أن المبالغة في ربط الحرية الفردية بملف المثلية الجنسية، وإصرار بعض الأطراف على حرمان الأسرة التقليدية من سلطتها على أبنائها؛ يهدّد بشكل واضح التماسك الاجتماعي في الغرب، وهذا ما يعزّز من مصداقية الملاحظة التي تذهب إلى القول: إن هناك إصراراً على الانتحار البطيء في الغرب، بسبب ضعف سلم القيم وتراجع قدرة الجماعة على التأثير الإيجابي في الأفراد.

ويمكن القول في الأخير، إنه إذا كانت إيجابيات الغرب هي من القوة والتعدّد حيث يصعب حصرها، من منطلق أن حلم شباب العالم مازال شديد الارتباط بنموذج الحياة في الغرب على مستويات عديدة مثل الفنون وأنماط اللباس والأكل وآخر صيحات الموضة، نتيجة لحاضر الدول الغربية القوي بمنجزات التقنية والمعلوماتية، إلا أن المستقبل لا يدعو إلى التفاؤل بسبب طغيان الترف والبحث المتهافت عن اللذة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4h4ampb9

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"