رحلة إلى المستقبل

04:06 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. مصطفى الفقي

لقد أسرفنا كثيراً في الحديث عن الماضي حتى استغرقنا ذلك عن فهم الحاضر والتهيؤ للمستقبل، والآن يحلو لنا أحياناً أن نبحر نحو المستقبل لنحلق في أجواء ما هو قادم مستخدمين حق الخيال في أدق صوره، لعلنا نستطلع مستقبلًا نرجوه لأولادنا وأحفادنا وأجيال تليهم ما زالت في ضمير الغيب. ونحن إذ نقوم بهذه المحاولة لارتياد الغد واستشراف المستقبل فإنما نفعل ذلك نتيجة شعور دفين بالقلق ورغبة حقيقية في الإصلاح، وتطلع وطني في اتجاه الأفق البعيد، دعنا نتأمل النقاط التالية:
* أولاً: إن استقراء التاريخ يشير بوضوح إلى أن الأمم العظيمة تستلهم الأفكار الكبرى التي تقودها نحو شاطئ الأمان، إذ لم يكن «نهرو» عشوائياً عندما فكر هو ورفاقه غداة الاستقلال في مستقبل «الدولة الهندية» معتمدين على تصور شامل لما يريدونه ل«الهند» عبر رحلة المستقبل، فاستلهموا بخيالهم الوطني ما يجب أن تكون عليه «الدولة الهندية» بعد نصف قرن، ثم بعد قرن كامل، فأنشأوا مجلساً أعلى للتخطيط القومي التزمت حكومات «الهند» المتعاقبة بالخطوط العريضة لسياساته وأبرز أفكاره. ولا أظن أننا في مصر قد عكفنا على شيء من ذلك، أو استطعنا التوافق على نقطة البداية، فنحن حتى الآن لم نستعد لمرحلة «التحليق»، ولم نستكمل الاستعداد للحظة «الإقلاع»، ولن تزدهر أمة إذا لم يكن النظام التعليمي فيها عصرياً يجمع بين العلم والتدريب عليه، ويزرع مبادئ الجدية والالتزام لدى طلابه، ويصنع جسوراً للتواصل بين الأجيال، وهو أمر لم نتمكن من تحقيقه حتى الآن.
إن حق الخيال هو واحد من أرقى الحقوق التي جعلها الله متاحة للعقل البشري في كل زمان ومكان.
* ثانياً: إن الذي يتأمل في المشهد المصري يدرك مباشرة أنه لا تنقصنا النوايا الطيبة، ولا الرغبة الصادقة، ولا الوطنية الخالصة، ولكن الأمر الذي نفتقده هو ذلك الحشد من الأفكار المتجددة في كل القطاعات مع امتلاك رؤية بعيدة في كل اتجاه، فالطريق إلى جهنم مفروش أحياناً بالنوايا الحسنة والكلمات الطيبة، ولكن مسؤولية المستقبل المصري تلزم الجميع بأن يعملوا بطريقة ممنهجة، وأسلوب علمي يبدأ بحصر موارد الدولة - الطبيعية والبشرية - وتوظيف كل منها التوظيف الأمثل، وهنا أشير إلى أهمية الخبرة الأجنبية أحياناً، فذلك لا ينتقص من الجهد المبذول في الداخل. ف«الإسبان» بارعون في قطاع السياحة، و«الهولنديون» متفوقون في الزراعة الحديثة وأساليب الري بالتنقيط، وقس على ذلك دولاً أخرى تفوقت في مجالات مختلفة، ولا ينبغي أن نشعر بحساسية في الحصول على خبراتها المتميزة وميزاتها النسبية.
* ثالثاً: لقد استلهمت مصر من ماضيها العظيم ما يدفعها خطوات واسعة نحو الأمام، فمصر تملك ذاكرة قومية متعددة الأعمدة والألوان والمواقف، لذلك فإن لديها مخزوناً من الخبرات والتجارب يجب أن تستدعيها القيادة الحاكمة لتستمد منها الرؤى والسياسات المطلوبة لصياغة المستقبل بعد تحسين الحاضر. إن الدولة المصرية لابد أن تمضي إلى رؤية عصرية تعطي الوطن ما يستحقه من مكانة بين أمم الأرض وشعوب الدنيا.
* رابعاً: إننا في عالم سقطت فيه الحواجز وتلاشت الأسوار، وأصبحنا أمام انسياب واضح تنتقل من خلاله الأفكار المبتكرة والاكتشافات العلمية والاختراعات العملية، لذلك فإن مصر يجب أن تستفيد من خبرات الآخرين الذين سبقوها على طريق التقدم، إننا بحاجة إلى ما يعطينا دفعة للقطاعات المختلفة للحاق بمجموعات اقتصادية جديدة ظهرت حديثاً يجب أن يكون لنا فيها تواجد حتمي لدولة لديها كافة المقومات للانطلاق، ولكنها تتعثر دائماً لأسباب معقدة نتيجة التداخل بين التراث والحاضر، بين منظومة التقاليد الموروثة ومجموعة الأهداف المرجوة، إننا يجب أن نفتح الأبواب والنوافذ لتدخل منها التيارات العصرية من كل اتجاه من دون مبالغة في المخاوف أو اصطناع للمحاذير، فقد أصبح العالم «قرية كونية» وليس مجموعة من الجزر المنعزلة.
* خامساً: إن الاشتباك القائم بين الدين والسياسة الذي تمخض عنه ميلاد حركات «الإسلام السياسي» قد أصبح أمراً يحتاج إلى حسم ومراجعة من جانب الأطراف كافة، لأن جزءاً كبيراً من مشكلات المنطقة قد نجم عن التداخل بين هذين العنصرين في العقود الأخيرة، وهو الذي أذكى صراعات كثيرة في المنطقة، وأعطى مبرراً للإرهاب الأسود لكي يستغل الدين في غير ما جاء من أجله، حتى أصبحنا أمام مشهد عبثي تختلط فيه القضايا والمواقف وتنجم عنه المشكلات المعقدة والأزمات الطارئة. دعونا نردد المقولة العظيمة (دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، خصوصاً أن شخصية مصر وسطية بطبيعتها، معتدلة بفطرتها، وقد تحمل المصريون قروناً من القهر السياسي، وعقوداً من الضغط الاقتصادي، ولكنهم لم يتحملوا عاماً واحداً من العبث الثقافي، إذ إن هوية مصر هي الكيان والروح، هي الماضي والتراث، هي الحاضر والمستقبل.
* سادساً: إن الرؤية المجردة والموضوعية والنظرة المحايدة للواقع المصري يجب ألا تستغرق بنا في التشاؤم، فقد عبرت مصر مراحل أكثر صعوبة وأشد ضراوة. إن مصر عرفت الانكسار والانتصار، وذاقت مرارة الهزيمة وحلاوة النصر، لذلك فإننا يجب ألا نشعر بالانزعاج لما يحدث حولنا أحياناً، ويجب أن ندرك أن الشعب المصري له مزاجه الخاص، ومعدنه الفريد، فهو يتماسك أمام المحن ويصمد أمام الخطوب ويستدعي أنوار الفجر ليزيل الظلام.
إننا نتحدث عن المستقبل بلغة الحاضر وتلك خطيئة أخرى، فلكل مرحلة مناخها الفكري وبيئتها السياسية، وروحها الثقافية، لذلك فإن الخيال الواعي هو ذلك الذي يرى ماهو قادم بمنظور العصر الذي أتي فيه، ولعل هذه النقطة تحديداً تلامس قضية مهمة في تاريخنا الحديث وهي التي نطلق عليها مسألة «صراع الأجيال». فلن يتحقق المستقبل الواعد إلا بالمصالحة الطبيعية بين الأجيال المختلفة حتى يتحقق للجميع ما يتطلعون إليه في مستقبل هذا البلد الواعد، برغم كل الاستهداف له والتضييق عليه ومحاصرة انطلاقه دائماً.
* سابعاً: يجب أن نشجع الدراسات المستقبلية، وأن نعتمد على ذخيرة كبيرة من المعارف والعلوم والدراسات والأبحاث التي تمس مظاهر حياتنا، واضعين في الاعتبار أنه لن يبني مصر إلا المصريون، قد تساعد القروض الأجنبية أو المعونات العربية بعض الوقت، ولكنها ليست أبداً الطريق نحو المستقبل.
إن الأمم العظيمة شيدتها الآلام العظيمة، وبنتها بالدم والعرق والدموع ونحن في حاجة إلى مزيد من التماسك والإحساس بأن مصر التي بنت الماضي هي بالضرورة أم المستقبل.
هذه محاور سقناها في محاولة للتحريض على التفكير وفتح آفاق جديدة أمام العقل المصري الخلاق والروح المبدعة الكامنة في تاريخه، لكي نبدأ الانطلاق، حتى ولو جاء متأخراً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"