أيام في موسكو

04:46 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. مصطفى الفقي
قضيت أسبوعاً كاملاً في العاصمة الروسية، في زيارة هي الرابعة لي منذ الزيارة الأولى عام 1989، وأتذكر وقتها، كيف أن المباني الضخمة قد بهرتني، وأن الشوارع الواسعة قد أدهشتني، فالمدينة فريدة في طرازها وعظمة بنيانها، ولقد كانت صورة الشعب الروسي في ذهني قبل الزيارة الأولى، مجسدة في سيدة روسية بدينة تقود سيارة لوري ضخمة، للمشاركة في مشروع كبير، ولكن الصورة الآن تغيرت تماماً، إذ تبدو ملامح التغيير سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعيا على النحو التالي:
أولاً إن وصول فلاديمير بوتين إلى قمة السلطة بعد أن كان مديراً لمحطة برلين للمخابرات الروسية KGB، ومحاولته استعادة مكانة روسيا الاتحادية، متجاوزاً جميع العقبات وكل الأزمات، وفتح مواجهة جديدة مع الولايات المتحدة الأمريكية ومع الغرب عموماً، حاول بها أن يستعيد مكانة روسيا في محيطها الإقليمي، وأجبر الأتراك على الاعتذار العلني، وقام بتغييرات جذرية في المكون السياسي والاقتصادي للدولة الروسية على نحو يدعو إلى الإعجاب.
ثانياً لقد شاهدت في موسكو فروعاً لأرقى بيوت الأزياء في العالم، مع أفخر المطاعم وأرقى المقاهي، فضلاً عن عراقة التراث وفخامة المباني وروعة المتاحف، ولقد شاهدت الشباب من الجنسين وهم يرتدون ثياباً تعكس أحدث ما وصلت إليه الموضة الغربية، وذلك أمر لم يكن له وجود في ثمانينات القرن الماضي، بل إنني أتذكر في أول زيارة لي، وكنت مع الرئيس الأسبق مبارك، أنني كنت في صحبه د. بطرس غالي، نقيم في فندق واحد، وتعذر علينا يومها تناول عشاء مناسب في ذلك الفندق الحكومي الكبير، بما يعكس طبيعة المرحلة التي كانت روسيا لا تزال غارقة فيها.
ثالثاً لقد بهرني مسجد موسكو كما لم يبهرني مسجد آخر في مدينة أخرى لا لضخامته وروعة بنائه، وجمال مآذنه وقبابه، ولكن أيضاً لسلامة التنظيم في مداخله ومخارجه والإحكام الأمني الذي يجعل الصلاة خالصة لوجه الله، ورأيت وجوهاً من القوميات الآسيوية المختلفة من (شيشان) و(تتر) بل ومن ذوي الأصول الأفغانية والإيرانية والتركية، والمعروف أن الرئيس الروسي أرثوذكسي متدين، لذلك فإنني أتوقع صلات أقوى بين الكنيستين الروسية والمصرية في المستقبل، بحكم التقارب المذهبي.
رابعاً إن قسوة المناخ في روسيا قد علمتهم الاستعانة بالألوان الفاقعة والصور الزاهية والمنحوتات الجميلة ليكسروا حدة البرودة، ولقد ذهبت بالقطار إلى سان بطرسبورج، وذلك بهدف زيارة واحد من أهم وأعظم متاحف العالم، وهو (الأرميتاج)، ورغم أنني كنت قد كونت صورة رائعة من قراءاتي عنه إلّا أن مشاهدتي له فاقت كل خيال، فالمبنى رائع والموقع متميز والقاعات فسيحة واللوحات نادرة، فهو أرقى متاحف تاريخ الفن في العالم، وأكثرها ثراءً وقيمة.
خامساً لقد زرت كاتدرائية موسكو الكبرى، ووجدت فيها فخامة وروعة، وهي تقف على الجانب الآخر من المسجد الكبير في العاصمة الروسية، وآمنت مرة أخرى بأن التعايش المشترك هو السبيل الأوحد لاستمرار الحياة وتألق الوجود، وأدركت أن روسيا الاتحادية التي تضم قوميات مختلفة وأعراقاً متباينة وديانات متعددة سوف تبقى دولة قوية منيعة، مهما كانت التحديات والمخاطر والأزمات.
سادساً إن الشراكة المصرية الروسية في الستين عاماً الأخيرة، برغم موجات الصعود والهبوط، تمثل رمزاً للتعاون بين البلدين في النواحي الاقتصادية والفنية من دون قيود سياسية، ولنتذكر دائماً أن الروس قد وقفوا إلى جانب مصر في مراحل مختلفة من تاريخ العلاقة بين البلدين، وفي ظل النظام الشيوعي وغير الشيوعي، فالصداقة بين المصريين والروس كانت ولاتزال، وسوف تبقى قوية لا يؤثر فيها تفجير طائرة ركاب مدنية!
سابعاً إن ما أقوله لا يعني أن (الكرملين) تسكنه الملائكة، بل إنني قرأت أن روسيا تحتفظ بصداقة قوية مع «إسرائيل» وتنسيق سياسي وعسكري منتظم معها، بل إن الضربات الجوية التي استهدف بها الطيران الروسي قواعد المقاومة السورية وبعض مراكز تنظيم «داعش» الإرهابي، قد تمت كلها بالتنسيق بين موسكو، وتل أبيب، حتى أن هناك شائعة تتردد حول تعيين ليبرمان وزيراً للخارجية «الإسرائيلية»، وهو روسي الأصل مجاملةً من نتنياهو لبوتين، ودعماً للصداقة بينهما.
الشراكة المصرية الروسية تمثل رمزاً للتعاون بين البلدين في النواحي الاقتصادية والفنية من دون قيود سياسية
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"