جرائم الاغتصاب بين صمت المجتمعات ومعاناة الضحايا

04:50 صباحا
قراءة 4 دقائق
عائشة تريم
نحن الآن في الهند، في عام 1973... في المشهد، ممرضة شابة لم تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها، تعمل في أحد المستشفيات وتتفانى في عملها لدرجة أن المرضى يشعرون بأنهم أقرباؤها ومن أفراد عائلتها...
أرونا شانبوغ ..فتاة مخطوبة ، تستعد للزواج وتحقيقِ حلمها بدخول قفص الزوجية، لكن يد الجريمة باغتتها وهي في مكان عملها حيث تم اغتصابها وخنقها بسلاسل حديدية التفت حول عنقها بقسوة ووحشية فوقعت مغشياً عليها ودخلت في غيبوبة لم تستفِق منها إلا بعد اثنين وأربعين عاماً!
ومنذ ذلك اليوم الذي توقف فيه تدفق الأوكسجين إلى دماغ أرونا وهي تعيش معاناة مستمرة في المستشفى ذاتها التي تعرضت فيها للجريمة الشنيعة...
أثناء التحقيق في الجريمة ، أفاد أطباء المستشفى أن أرونا تعرضت لحادثة سرقة ومحاولة للقتل، ولم يتحدثوا عن أي جريمة اغتصاب لأن الحديث في هذا الشأن كان من شأنه أن يلحق العار بالفتاة ...
أما الفاعل، ذلك الوحش الذي لا أجد كلمة تصفه أفضل من هذه الكلمة،  فقد حُكم عليه بالسجن سبع سنين، بينما حُكم على أرونا بالمعاناة مدى الحياة، ورقدت على سريرها في المستشفى حيث ظلت برعاية زميلاتها الممرضات... 
مضى على الحادثة اثنان وأربعون عاماً كانت إدارة المستشفى تقرر خلالها كل بضع سنين إخلاء سرير أرونا، لكنَّ المسؤولين كانوا يتراجعون عن قرارهم  تحت ضغط الممرضات واحتجاجهن.  
في قصة أرونا، يتجلى اختلاف الطبائع البشرية بين وحوش يحملون كل معاني الشر ويثيرون الخوف والذعر، وملائكة يعملون على رفع المعاناة عمَّن حولهم بكل ما أوتوا من طيبة وكرم... إنَّ هذه التناقضات لهي عجبٌ عُجاب ، فجميعنا ننتمي إلى صنف البشر!
فاضت روح أرونا شانبوغ إلى بارئها في الأسبوع الماضي بعد أن استمرت في حالة موت دماغي اثنين وأربعين عاما ظلَّ خلالها جسدُها النحيلُ ملقًى على السرير في المستشفى يفتته التقدم في السن ، بينما ظلت عيناها مفتوحتين  على الألم  في حالة صمت تام...
إن تناسينا عدد هذه السنين، فإن الزمن يحصيها ولا يغفل عنها، لقد ظلت أرونا حية موصولة بالأوكسجين عمُراً لتذكِّرنا بأن الاغتصاب ليس جريمة عادية مثل كل الجرائم ، فهو جريمة قتل سواء ماتت المغتصبة أم لم تمت ، فانتهاك العرض ودوس الكرامة في عمل بعيد كل البعد عن الإنسانية يجعل كل ضحية ميتة وإن كانت لاتزال على قيد الحياة... لقد جسدت أرونا هذا الشعور بكل معانيه، فقد ظلت اثنين وأربعين عاماً لتجعلنا شاهدين على أن الجراح التي تخلفها جرائم الاغتصاب لا يمكن أن تلتئم أو تزول...   
عندما تتحدث بعض المجتمعات عن الاغتصاب فإنها لا تضعها في مكانها الصحيح، أو تفضل تجنب الحديث عنها . فلمَ كل هذا التكتم؟ ربما لأن الجريمة أبشع وأقسى من أن تُحتمل فيكون إنكار وجودها أفضل من التحدث عن أمر يُلصق العار بالضحية ...
ما زال الجدل حول جريمة الاغتصاب قائماً على الرغم من مرور اثنين وأربعين عاماً على الجريمة التي تعرضت لها أرونا... اثنان وأربعون عاماً، أليست كافية لتُغيِّر المجتمعاتُ نظرتها إلى الاغتصاب وتسنَّ قانوناً يفرض عقوباتٍ صارمةً على مرتكبي هذه الجرائم؟
سنعبر التاريخ ونعود من عام 1973 إلى زمننا لنجد أنه في كثير من المجتمعات وفي مناطق مختلفة من العالم، لا يُنظر للمغتصبة على أنها ضحية، بل يُقال إنَّ من تعرضت للاغتصاب قد جَنت على نفسها سواء من خلال أسلوب حياتها وصفحات ماضيها، أم من خلال طريقة لباسها ... وكأن الناس يبحثون عن أي مستمسك يشركون فيه الضحية والمجرم بالمسؤولية! 
هل في الاغتصاب مسؤولية مشتركة وهو جريمة تؤخذ فيها الضحية عنوةً ، بلا رحمة وتحت سطوة القوة؟ 
ما من شيء يبرر فعل الفاعل، ولا بد من اجتثاث الظلم وسلخ الظلام عمَّا يحدث ليرى العالم أنه لا مجال للتسامح والعفو في هذه القضية.
إذا أردنا أن نحصي جرائم الاغتصاب حول العالم فإننا لن نجد أرقاماً دقيقة، فمقابل الإحصاءات المتوفرة تظل هناك إحصاءات مفقودة وحالات تم التكتم عليها...
إن الأمر لمخزٍ حقاً ، فقد تعودنا أن تتحمل الضحية الألم والمعاناة ، وتقاسي في صمت خوفاً من أحكام مجحفة تطلق في حقها قبل أن يصدر حكم المحكمة.
إذا كنا قد سمعنا بقصة أرونا وبقصص اغتصاب أخرى ، فإن هناك قصصاً كثيرة مماثلة لم نسمع بها، هي مئات بل آلاف ... نحن نتحدث عن هكذا قصص دائما بصوتٍ خافتٍ كي لا يسمع أطفالنا، فلمَ لا نعلِّمهم ألَّا يخافوا ليتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم ونتعلم ألَّا نكتفي بالاستنكار؟
لا بد للحكومات في كل مكان من أن تتخذ تدابير من شأنها أن تستأصل هذا المرض، وأن تسنَّ قوانين صارمةً في حق كلِّ من يرتكب مثل هذه الجرائم، كما لا بد أن تُقام حملات توعية ليتعلم الأطفال أن الناس ليسوا ملائكة فقط ! فالشر والعنف والجرائم جزء لا يتجزأ من عالمنا، الكثيرون يحاولون غضَّ النظر عمَّا يحدث حولنا محاولين إيجاد مبررات ومستسلمين لما يجري في سبيل أن تبقى الفكرة عما يحيط بنا إيجابية ...
إلى أي درجة وصلت بنا الأنانية؟ وهل أصبحت آلام الآخرين عقبة تعكر صفو أذهاننا التي باتت تبحث فقط  عما هو مفرح؟ ولو أشحنا بوجوهنا عن الشر المتواري في ظلام العالم فإن هذا الشر لن يزول بل سيبقى فتَّاكا إلى أن نتمكن من الوقوف في وجهه والتصدي له بكل ما أوتينا من قوة...
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"