النمو في القمة

00:55 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. عبد العظيم محمود حنفي

كان جمع الثروة الهدف الرئيسي للمغامرين من البشر على مر التاريخ، وعبر كل المجتمعات. وقد انتهجوا في ذلك أحد سبيلين، زيادة حجم الكعكة، والحصول على نصيب عادل منها، أو مجرد الاستيلاء على قطعة أكبر من الكعكة، سواء كبرت أم ظلت على حالها. وحتى حقبة الثورة الصناعية كان الخيار الثاني - إعادة توزيع ما هو موجود بالفعل - هو السبيل الأكثر شيوعاً إلى حد بعيد، وهو ما يفسر كون النمو الاقتصادي الذي حققته الدول الصناعية في القرنين الماضيين، نمواً غير مسبوق في التاريخين القديم أو الحديث.

هناك أسباب مباشرة جعلت لإعادة توزيع الثروة - وليس النمو - الوسيلة المفضلة لجمع الثروة خلال معظم تاريخ البشرية. وربما يكون أوضح تلك الأسباب هو الاستيلاء على الثروات من الآخرين الأضعف يبدو الحل الأسهل، فالواقع أن العنف كان ينظر إليه على أنه نشاط رجولي وبطولي عندما تتكالب الأخطار متربصة من كل جانب. هذا فضلاً عن أنه في مثل تلك البيئة لا يُطمأن كثيراً إلى أن ثمرات السبيل الآخر للحصول على الثروة - أي المساهمة في الإنتاج ونمو الاقتصاد - ستؤول جلّها، أو حتى نسبة يعتد بها، إلى الأفراد الذين أخذوا على عاتقهم بذل تلك المساهمة.

إن المميزات المباشرة التي ترجح كفة انتزاع الثروة على الأنشطة الأخرى التي تزيد إجمالي ثروة المجتمع من الوضوح إلى درجة يصعب معها تفسير الأسباب التي أدت باقتصادات السوق الحرة الحديثة إلى الانتقال إلى الخيار الثاني. على أن التفسير الواضح ربما يتمثل، وفق بعض الآراء، في ظهور مؤسسات جديدة حجمت خيارات المغامرة بانتزاع الثروة وحدّت من مكاسبها، مع توفيرها- في الوقت نفسه - مكافأة ومكاسب مؤكدة للفرد المغامر الذي يسهم في نمو الاقتصاد. ولو نظرنا إلى الموضوع على هذا النحو فسيتضح لنا أن تلك التغيرات الثورية في بنية المحفزات، كانت تحمل الحظ السعيد للمجتمعات التي شهدت تلك الثروات، فقد كان الأمر أشبه بالمعجزة.

قد تحتاج الاقتصادات أو تستفيد بشكل أكبر في مراحلها الأولى من يد الدولة الموجهة، وهكذا موضوع جدلي، ولكن من المؤكد أنه بمجرد أن تقترب الاقتصادات من الذروة التكنولوجية - أي بمجرد أن تصبح مستويات المعيشة فيها من أعلى المستويات في العالم - فإنها تستطيع أن تظل في الذروة أو أن تصل إليها فقط، عندما يتنحى توجيه الدولة جانباً وتتبنى مزيجاً من رأسمالية ريادية الأعمال والشركات الكبيرة. على أن طبيعة هذا المزيج، وكذلك خصائص رأسمالية ريادية الأعمال على وجه الخصوص، سوف تختلف من بلد إلى آخر، حسب الظروف التاريخية والاختلافات الثقافية. وبعبارة أبسط، كل الاقتصادات تحتاج إلى درجة من ريادية الأعمال لإيجاد تجديد جذري، كما أنها تحتاج أيضاً إلى شركات كبيرة فعالة لضبط هذا التجديد وتسويقه على نطاق واسع. وليس كل الاقتصادات جاهزة لهذا المزيج من رأسمالية ريادية الأعمال والشركات الكبيرة. ومن الضروري هنا معرفة المكونات الرئيسية لتحقيق هذا المزج بين رأسمالية ريادية الأعمال والشركات الكبيرة والحفاظ عليه. ولا بد من التشديد على فشل النمو في الاستجابة لأي صيغة من الصيغ الكلية المعيارية، لأن تلك الصيغ فشلت في الانتباه إلى مبدا أساسي في الاقتصاد: الناس تستجيب للمحفزات. فليس هناك وصفة واحدة للنمو، حتى في الاقتصادات التي وصلت إلى الذروة أو اقتربت منها، فقواعد ومؤسسات بعينها قد تنجح في بلد ما، وقد لا تنجح، بل غالباً لا تنجح، في بلدان أخرى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"