عادي
نحن والآخر

التعايش السِّلمي مبدأ إسلامي

22:54 مساء
قراءة 4 دقائق

عَرَفَ المجتمع الإسلامي مبدأ «التعايش السلمي» منذ نشأة الدولة الإسلامية، عقب هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وتجلَّى هذا المبدأ في معاهدة الرسول مع المقيمين بهذا المجتمع الجديد خاصة اليهود، ووضع «صحيفة المدينة» التي تشكِّل الدستور الأول في الاعتراف بحقوق الآخر، وأسس التعايش بين جميع طوائف المجتمع، انطلاقاً من قول الحق سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)

كذلك قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود: 118)، وتحقيقاً للقانون الإلهي القائم على التنوع والاختلاف، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (التغابن: 2). وقد حرص الإسلام على تأكيد مبدأ التعايش مع الآخر، بسلام ومودة ورحمة، قال الله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 64).

لقد صاغت «صحيفة المدينة» بين المسلمين من المهاجرين والأنصار واليهود المقيمين بالمدينة، عدة بنود في الحقوق والواجبات بين طوائف المجتمع الواحد، لا تزال شاهدة على تفرُّد الإسلام في اعترافه بالآخر، ومنحه حقوقه وحرياته، كما أسست لكيفية التعايش مع الآخر، ومما جاء بهذه الصحيفة: «هذا كتاب من محمد النبي، رسول الله، بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومَن اتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. إنهم أمة واحدة من دون الناس... وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يُوتِغُ (أي لا يُهلك) إلا نفسه وأهل بيته... وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم... وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين... وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم.. وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

شواهد عديدة

تذكر كتب السنة والسيرة النبوية الشريفة العديد من الشواهد التي تؤرخ للتعايش السلمي في ظل الإسلام ودولته، وكانت هناك معاهدات بين الرسول صلى الله عليه وسلم واليهود والنصارى، بل إنه صلى الله عليه وسلم صالَحَ المشركين في الحديبية، واستمرت العلاقة بين المسلمين وغيرهم من اليهود والنصارى في أعمال التجارة من بيع وشراء واقتراض، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي، فقد روى البخاري في صحيحه «أن النبي صلى الله عليه وسلم مات، ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير». ومما ورد في هذا الشأن أن يهوديّاً باع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعاً إلى أجل، وجاءه قبل الأجل يتقاضاه ثمنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم يحل الأجل، فقال اليهودي: إنكم يا بني عبد المطلب قوم مُطْل، فهَمَّ به أصحاب النبي، فنهاهم، فلم يزده ذلك إلا حِلْماً، فقال اليهودي: كل شيء منه قد عرفته من علامات النبوة، وبقيت واحدة، وهي أنه لا تزيده شدة الجهل إلا حِلْماً، فأردت أن أعرفها، فأسلمَ اليهودي».

ومن حرصه صلى الله عليه وسلم على التعايش السلمي في المجتمعات الجديدة التي سيدخلها المسلمون، أنه كان يوصي جيوش المسلمين، بقوله: «اخرجوا باسم الله، تقاتلون في سبيل الله مَنْ كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغُلُّوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوِلدان، ولا أصحاب الصوامع». وقد استمرت هذه الوصايا بدور العبادة وأصحابها وعدم التعرض لهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا خليفة المسلمين أبو بكر الصديق رضي الله عنه، يوصي جيش أسامة بن زيد، حينما بعثه إلى الشام، بقوله: «ولا تهدموا بيعة، ولا تقتلوا الوِلدان ولا الشيوخ ولا النساء، وستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له». إنه التعايش القائم على احترام أهل الأديان الأخرى، من أجل إقامة مجتمع يسوده الأمن والطمأنينة بين أفراده.. بل إنه الحرص على مصلحة الآخر، ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم، يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسْلِم، فنظر إلى أبيه، وهو عنده، فقال له: أطِعْ أبا القاسم، فأسلمَ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار.

ومن الأسس التي أرساها الإسلام في تنظيم العلاقة مع الآخر والتعايش معه، قول الحق سبحانه وتعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة: 8 و9).

لقد سبق الإسلام بسماحته مع الآخر وتشريعاته الخالدة، كل الأعراف والقوانين والمنظمات التي تنادي بضرورة التعايش السلمي، في عالَم تتحكم فيه الأهواء. كما وضع الإسلام نظاماً دقيقاً للمواطنة القائمة على مبدأ «لهم ما لنا، وعليهم ما علينا».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5xnfmr3m

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"