حرب التحولات الكبرى

00:21 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ليست مجرد حرب يخوضها جيش نظامي مسلح بأحدث الأسلحة والتقنيات العسكرية في العالم على شعب أعزل محاصر محروم من حقوقه الإنسانية فقط، بل هي حرب التحولات العالمية الكبرى والانقلاب على كل ما كان سائداً منذ قيام دولة إسرائيل. حرب تكتب تاريخاً جديداً ليس لكل من فلسطين وإسرائيل فقط ولكن للنظام العالمي برمته. إنها ليست حرباً عالمية ولكن نتائجها لن تختلف كثيراً عن نتائج الحربين الأولى والثانية.

تغيرت ثوابت قطاع عريض من الرأي العام الغربي ومن محترفي السياسة في كثير من الدول بشأن إسرائيل «الضحية وواحة الديمقراطية» المحاطة بوحوش لا يريدون لها أمناً ولا استقراراً ولا بقاءً، وأيقن الكثيرون حول العالم أن هذه السردية التي تم تسويقها إعلامياً وتكريسها شعبياً ليست صحيحة أو على الأقل مشكوك فيها، وكما قال الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت فإن «الشك هو رأس الحكمة وهو الطريق الملكية لليقين»، فمن أصبح متيقناً من أن إسرائيل لم تكن ضحية، أمرهم محسوم، أما من تخلخلت ثوابتهم وأصبحوا يتشككون بشأنها فشكهم سيتحول يقيناً عاجلاً غير آجل بفعل الجرائم الإسرائيلية الممتدة لأكثر من ثمانية شهور في حق الأطفال والنساء والمدنيين الفلسطينيين سواء ارتكبها الجيش أو المستوطنون أو حتى المسؤولون.

الحرب ستنتهي، ولعل قرار مجلس الأمن الأخير المطالب بالوقف الفوري لإطلاق النار هو بداية التحرك الفعلي لإنهاء الحرب، ولكن هذا لن يمحو آثارها السياسية، بل وستكشف الأيام المقبلة مستوراً يزيد الغضب العالمي على كل من تورط فيها، ولن تعود صورة إسرائيل التي كانت قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول كما كانت؛ فالغضب الشعبي العالمي عليها لن ينقلب إلى رضا عنها.. لن تتراجع إسبانيا والنرويج وإيرلندا وسلوفينيا عن اعترافها بالدولة الفلسطينية، ولن يتناقص عدد الدول المعترفة بالدولة الفلسطينية البالغة 148 دولة منها 12 أوروبية، بل سيزداد.. ولن ينسى أحد أنها لم تكن حرباً عسكرية فقط ولكنها كانت حرب تجويع وحصار وحرمان من الدواء والعلاج والطعام. إن عزلة إسرائيل ستتزايد، وأزماتها الدبلوماسية التي أفرزتها الحرب والتي وصلت إلى سحب سفراء وقطع علاقات مع عواصم عدة سيكون لها توابع، ولن يزول الغضب الشعبي تجاهها في قارات الدنيا بين عشية وضحاها.

لن يغفر الوجدان العالمي استخدامها القوة المفرطة وعدم التمييز بين المدنيين والمسلحين وعدم وجود خطة لديها لحماية المدنيين والمجازر التي ارتكبتها في مناطق لجوء ومخيمات نزوح وآخرها في رفح ثم النصيرات.

إن انقلاب شعوب ودول على الثوابت هو انحياز للإنسانية. نهج إسرائيل في المعركة وارتكابها جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية وخروجها عن القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني هو الذي يجني عليها، نالت من الأمم المتحدة ورئيسها ومنظماتها مرات ومرات خصوصاً منظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» التي أصبحت تحتاج إلى الغوث بعد الاعتداءات المتكررة عليها وعلى منشآتها ومحاولات وصمها بالإرهاب. إسرائيل تعي أن محكمة العدل الدولية هي أعلى محكمة أممية في العالم، وأن قراراتها لا تخضع لإرادة قاض أو عدد محدود من القضاة، بل إلى 15 قاضياً من دول مختلفة، وعدم التفات تل أبيب للقرارات المتتالية بشأن الحرب، وتعاملها معها باستهانة سيثبّتها دولة خارجة على القانون وقد تنضم دول أخرى لدعوى جنوب إفريقيا ضدها بعد إسبانيا.

إسرائيل تحدت العالم وآثرت الخروج الصريح على القانون الدولي، ورفضت الاستماع إلى نصائح حلفاء بوقف الحرب، كما تجاهلت بيانات الإدانة من قارات الدنيا عقب كل مجزرة ارتكبتها، وفي ذات الوقت سخرت من قرار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ووصل الأمر إلى تهديده وبعض جهازه من قبلها ومن قبل داعميها بعد إعلانه الطلب من قضاة المحكمة الجنائية الدولية، إصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف جالانت، بتهمة ارتكاب «جرائم حرب» و«جرائم ضد الإنسانية».

لكن إسرائيل لا تقبل بأن تكون إلا فوق القانون، ويشجعها على ذلك موقف الولايات المتحدة التي استخدمت كل متاح من ألفاظ الإدانة ضد المدعي العام ووصل الأمر إلى تصويت مجلس النواب لفرض عقوبات على المحكمة التي كانت عادلة عندما أصدرت قراراً بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأصبحت ظالمة ومنحازة للإرهاب عندما تعاملت بالمثل مع نتنياهو وغالانت! التحولات الكبرى لن تتوقف على ما نتابعه في غزة وحول العالم، لكنها ستمتد إلى ما بعد الحرب وما بعد بعد الحرب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4kdx4jx7

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"