في دلالات تقدّم اليمين الأوروبي

00:09 صباحا
قراءة 4 دقائق

حسام ميرو

المراقب للحملات الانتخابية التي سبقت انتخابات البرلمان الأوربي، قد يجد في ترويج أحزاب اليمين المتطرّف لرموز من الماضي، شيئاً من الغرابة، وربما الإحساس الأوّلي بأن هذه الأحزاب عينها على الماضي، أكثر من المستقبل. فعلى سبيل المثال لا الحصر، اعتمد حزب «البديل» الألماني، اليميني المتطرّف، المارك الألماني، الذي انتهى تداوله قبل 22 عاماً، لكن في واقع الأمر، فإن استعادة رموز الدولة القومية، هو محاولة للقول إن واقع ألمانيا الاقتصادي، كان أفضل حالاً من واقعها الاقتصادي والمعيشي الراهن، في ظل الاتحاد الأوروبي. وبفضل هذا الخطاب، الذي يلامس شرائح واسعة، تمكّن «البديل» من إحراز 15 مقعداً في البرلمان الجديد، متقدّماً على الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وهو حزب أولاف شولتس، المستشار الألماني، الذي حصل على 14 مقعداً، على الرغم من كونه الحزب الأكبر في الائتلاف الحاكم.

الدول الأكثر ثقلاً في الاتحاد الأوروبي، شهدت تقدّماً كبيراً لأحزاب اليمين، واليمين المتطرّف، فقد شهدت فرنسا، اكتساح حزب «التجمع الوطني» اليميني، على حساب حزب «النهضة»، وهو حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي حلّ برلمان بلاده، ودعا إلى انتخابات برلمانية مبكرة أواخر الشهر الحالي، وقد شكّل هذا التقدّم لحزب «التجمع الوطني»، المضاد لأوروبا موحّدة، وصاحب موقف رافض للهجرة واللاجئين، صدمة في أوساط فرنسية عدة، اعتبرت أن هذا الفوز، قد يكون مقدّمة لوصول الحزب إلى السلطة في الانتخابات الرئاسية المقبلة في إبريل/ نيسان 2027.

العنوان الرئيسي لجميع أحزاب اليمين الأوروبي المتطرّف هو «الهوية»، فقد اتّخذت منها اسماً لحزبها الذي يجمعها تحت قبة البرلمان الأوربي، وهو حزب «الهوية والديمقراطية»، وتنطلق من مبدأ مشترك، مفاده أن التقدّم والازدهار الاقتصادي سيكون أفضل خارج مظلة الاتحاد الأوروبي، خصوصاً أن الكثير من الدول التي تنتمي إلى أوروبا الشرقية، والتي أصبحت بالتدريج داخل الاتحاد، تعيش على مساعدات الدول الأوروبية الكبيرة، في الوقت الذي بقيت فيه ديمقراطياتها هشّة، ويضرب فيها الفساد على نطاق واسع، وأن ضريبة وجودها في الاتحاد، تدفعها الدول الأكبر إنتاجاً واقتصاداً.

واقع التبادل التجاري بين الدول الأوروبية الغنية والفقيرة، يكشف تجاهل خطاب اليمين الأوروبي للحقائق الفعلية، حيث يميل الميزان التجاري لمصلحة الدول الأغنى، التي تصدّر قسماً كبيراً من منتجاتها لدول أوروبية متوسطة أو فقيرة، من دون أن تستورد منها إلا القليل، في الوقت الذي تستفيد منه اقتصادات كبيرة، من مثل ألمانيا من العمالة الأوروبية الدائمة أو الموسمية، والتي تأتي من بولندا ورومانيا وإيطاليا وبلغاريا وكرواتيا، والآن انضمّ الكثير من اللاجئين الأوكرانيين إلى سوق العمل، إلا أنه مع كل ذلك، فإن الأحزاب اليمينية تشنّ حملات سياسية وإعلامية، ضد حركة العمالة الأجنبية، بما فيها حركة العمال الأوروبيين، ويلقى خطابها تأثيراً لدى شرائح واسعة من المواطنين، المقتنعين بأن أوضاعهم المعيشية المتراجعة، هي بسبب الانفتاح على حركة العمالة الخارجية.

في منحى آخر، تصاعد في السنوات الأخيرة، استخدام ملف اللاجئين، من قبل كلّ القوى السياسية، إيجاباً وسلباً، وأصبحت ساحة السجال أوسع من قضية استقبال اللاجئين، ووصلت إلى قضايا تتعلق بالخوف على القيم الوطنية، ومن تغيير ثقافة المجتمع، وازدياد المخاطر الأمنية/ الإرهابية، ففي الوقت الذي كانت فيه مؤشرات الاقتصاد الأوروبي جيدة عموماً في عام 2015، ركّزت الأحزاب الحاكمة آنذاك على القيم الإيجابية الأوروبية، وتحديداً قيمة الإخاء والتضامن الإنساني، لكن ما إن أتت «جائحة كورونا»، وظهرت مشكلات عديدة في العديد من البنى الخدمية، وخصوصاً القطاع الصحي، ومن ثم تراجع مؤشرات الاقتصاد، وزيادة التضخّم، والحرب الروسية - الأوكرانية، حتى بدأت موجة تشكيك بإمكانية اندماج اللاجئين في مجتمعاتهم الجديدة، واختلاف القيم، والتكلفة الباهظة مالياً وخدمياً على مؤسسات الدولة، في تمويل برامج الاندماج.

إن صعود اليمين، وتقدّمه انتخابياً، وقدرته على التأثير والإقناع لفئات واسعة من الأوروبيين، يأتي في جانب منه، كنتيجة من نتائج التحديّات الصعبة التي تواجهها جميع الدول الأوروبية الصناعية، في التموضع بشكّل فعال في النظام الدولي، مع انزياح جزء مهم ووازن في سوق العمل الدولي، لمصلحة الصين، وأيضاً لمصلحة بلدان آسيوية أخرى، من مثل الهند، وازدياد حدة الأزمات الأوروبية البنيوية، ومنها الشيخوخة العمرية لسكان أوروبا. ففي ألمانيا وحدها، يبلغ عدد المتقاعدين (ممن تجاوزت أعمارهم 67 عاماً) نحو 21 مليوناً، أي ما يقارب ربع عدد المواطنين، وهو ما تترتّب عليه أعباء مالية وخدمية كبيرة، بالنسبة للخزينة العامة.

بالطبع، إن دلالات تقدّم اليمين في الانتخابات البرلمانية الأوروبية عديدة، لكن، يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً ربما، هو ما مدى تأثير هذا التقدّم على القرارات الأوروبية؟

الخطوة الأولى التي اتّخذتها الأحزاب المناهضة لليمين، هي تمتين تحالفها داخل البرلمان الأوروبي، بوصفها الكتلة الأكبر، لكن، لن يكون بإمكانها تبنّي سياسات وخطط تتجاهل قوة أحزاب اليمين، الأمر الذي قد يقود إلى تقديم تنازلات في ملفات أساسية، من دون أن يعني ذلك، التقليل من حدّة الاستقطاب، بل ربما تأكيد اليمين على قوته، واستعادته لمكانة الخطاب القومي المنغلق.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5b66av7r

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"