تأملات في «جمعة الشاشات الزرقاء»

21:39 مساء
قراءة 3 دقائق

حمد عبيد المنصوري*
ماذا تقول لنا أحداث تلك الجمعة التي حبست أنفاس الملايين من الناس؟

كثيرة هي الإجابات المحتملة عن مثل هذا السؤال، لكن تريستان هاريس خبير أخلاقيات التكنولوجيا، ومدير مركز التكنولوجيا الإنسانية الأمريكي، عبّر عن جوهر الحكاية عندما قال: علينا الإقرار بأن العالم الرقمي أصبح هو نفسه العالم الواقعي والحقيقي، وعلينا أن نتعامل معه على هذا الأساس.

منذ صبيحة ذلك اليوم، زخرت وسائل الإعلام بمسلسل بانورامي من الأخبار المنذرة بالخطر: طيارون فقدوا البوصلة نحو وجهاتهم ووجدوا أنفسهم أمام شاشات صماء وسط ذعر الركاب الذين تسرّبت إليهم أنباء مخيفة؛ وأطباء أخفقوا في الوصول إلى ملفات مرضاهم واضطروا إلى العودة للقلم والورقة للتعامل مع الحالات التي بين أيديهم؛ ومحاكم سيطر عليها الإرباك نتيجة عدم قدرة القضاة على معاينة القضايا التي حجبها اللون الأزرق. لقد كان القلق في ذلك اليوم كبيراً لدرجة أنه غطى على أكثر الأحداث الجيوسياسية سخونة في العالم.

لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: هل كانت تلك أول مرة يجد العالم فيها نفسه أمام ذلك النوع من الخطر، حتى تسيطر عليه الصدمة والذهول؟

بالقطع لا. ففي عام 2016 أدى خلل طارئ في أنظمة شركة (Dyn) إلى حجب مئات الآلاف من المواقع الإلكترونية، ومنها مواقع مركزية تعمل في التجارة الرقمية.

وفي 2020 أدى خلل في منظومة التحقق لدى فيسبوك إلى شلل في ملايين الحسابات.

وفي العام نفسه أخفق الملايين من مستخدمي «غوغل» في الوصول إلى مواعيدهم بسبب طارئ فني عانته أنظمة الشركة.

وفي العام التالي 2021 تسبب إشكال تقني في فقدان بيانات الملايين من مستخدمي الهواتف الذكية في الولايات المتحدة.

ولم يكد ذلك العام ينتهي حتى تعرضت مراكز بيانات «أمازون» إلى انقطاع شامل عرّض العديد من الشركات الكبرى لخسائر فادحة؛ ومن بينها «نتفليكس» و«ديزني» وغيرها.

ولو أردنا سرد كل الحوادث المشابهة؛ لاحتجنا إلى أضعاف هذه المساحة، لكن الغاية من ذكر هذه المحطات التاريخية هو الوصول إلى إجابة حول سؤال واحد: هل استخلص العالم ما يكفي من الدروس التي حملتها تلك الوقائع؟

لقد وضعتنا «جمعة الشاشات الزرقاء» أمام حقيقتين ساطعتين: الأولى هي مدى اعتمادنا على التكنولوجيا، والثانية هي أن هذا الاعتماد سيبدو في لحظة من اللحظات هشاً للغاية ما لم يكن العالم مستعداً لذلك.

أما كيفية الاستعداد، فالبداية يجب أن تكون في استخلاص العبر مما جرى. من هذه الدروس مثلاً أهمية الاحتفاظ بخيارات متعددة عند اعتماد مزودي الخدمات، وضرورة العمل باستمرار لضمان بيئة رقمية قوية تتيح الصمود أمام المخاطر، وتسمح باسترجاع الخدمات في أسرع وقت. كما يتعين مراجعة خطط الطوارئ الرقمية وتحديثها باستمرار لتتواءم مع طبيعة المخاطر المستجدة.

نقطة أخرى يجدر بنا الإشارة إليها، وهي أن تداعيات الخلل التقني العالمي أظهرت أهمية اعتماد مقاربة عالمية مشتركة تجاه الأزمات الناشئة عن الطوارئ الرقمية. فالعالم اليوم متشابك على نحو أكبر مما يتخيله أي منا، ولا يمكن لبلد بمفرده أو مؤسسة، مهما كانت كبيرة، أن تواجه مثل هذا النوع من الطوارئ.

وبطبيعة الحال، فإن هذه المقاربة العالمية المشتركة لا تلغي الحاجة إلى خطط وطنية للطوارئ الرقمية، وكذلك الأمر على مستوى المؤسسات، سواء كانت كبيرة أو صغيرة. غير أن تلك الخطط لا بد أن تكون متناغمة بشكل أو بآخر مع توجهات وسياسات عالمية متفق عليها في مثل هذه الظروف.

كثيرة هي الخيارات التي يتعين التركيز عليها في سياق الاستعداد لما هو قادم حتماً، وبالتأكيد ليس من بينها التصرف كأن شيئاً لم يكن.

أخيراً، من حسن الطالع أن آثار «جمعة الشاشات الزرقاء» لم تكن شاملة، إذ أصابت قسماً محدوداً من المؤسسات، وإن كان في معظم دول العالم. وبطبيعة الحال لم تكن دولة الإمارات خارج دائرة التداعيات، وقد كانت وزارة الخارجية شفافة في بيانها الذي أشار إلى أن الخلل التقني العالمي أثر في بعض أنظمتها الإلكترونية، ونصحت المستخدمين بتجنب أي معاملات حتى يتم حل المشكلة. وكذلك كانت هيئة تنظيم الاتصالات والحكومة الرقمية في مبادرتها للتواصل مع الجمهور وتنبيههم بشأن البرنامج المسبب للخلل. حمى الله بلادنا من كل خطر.

*مدير عام دبي الرقمية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3zn773mv

عن الكاتب

مدير عام دبي الرقمية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"