عادي
مرحلة جديدة من التعاون الثنائي هدفها نظام عالمي متعدد الأقطاب

روسيا والصين.. تحالف القيم والمصالح المشتركة

23:17 مساء
قراءة 8 دقائق
مناورات بحرية مشتركة بين البحرية الروسية والصينية
بوتين بجوار شي أثناء احدى اجتماعات البريكس
الرئيس الصيني شي جين بينغ يرحب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في بكين

د. أيمن سمير

«الروسي والصيني شقيقان إلى الأبد»، هذه الكلمات كانت بداية أغنية «موسكو - بكين» التي انتشرت قبل 75 عاماً، وتذكرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين - في حضور نظيره الصيني شي جين بينغ - أثناء زيارة بوتين الأخيرة إلي بكين.

وخلال 6 أشهر فقط التقي بوتين وشي 3 مرات، الأولى في موسكو، والثانية في بكين، والثالثة في الأستانة على هامش قمة شنغهاي للتعاون، ومنذ تولى الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2013 التقى مع الرئيس بوتين 40 مرة، وهو رقم قياسي في اللقاءات والقمم بين زعماء العالم.

بمناسبة مرور 75 عاماً على تدشين العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وقّعت موسكو وبكين في مايو الماضي اتفاقية «تعميق الشراكة الشاملة والتعاون الاستراتيجي»، وهي الاتفاقية التي تؤسس ل«مرحلة جديدة» من التعاون الثنائي في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية وحتى الثقافية - وهي تتضمن أكثر من 30 صفحة- تؤكد «الطبيعة الخاصة» للعلاقات الروسية الصينية، وترسم مزيداً من المسارات والطرق لتحقيق «نقلة نوعية» و«طفرة تاريخية» في العلاقات الثنائية، لكن ربما أكثر ما يلفت في هذا «التعميق الجديد» إلى العلاقات الاستراتيجية بين موسكو وبكين هو دعوة روسيا والصين إلى «تشكيل نظام عالمي عادل وديمقراطي»، فكلٌّ من الصين وروسيا تنعى بالفعل «النظام العالمي أحادي القطبية» الموروث منذ سقوط جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق، وتعمل الصين وروسيا على «بناء نظام عالمي» يقوم على مبادئ جديدة أبرزها عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، واحترام النمط التنموي والسياسي لكل دولة، والالتزام بالمعايير الدولية وقرارات الأمم المتحدة، فما هي دوافع الصين وروسيا لترفيع وتعميق العلاقات بين البلدين؟ وما هي الأبعاد السياسية والاقتصادية والعسكرية التي يمكن أن تصل إليها العلاقة بين «قصر الشعب» الصيني و«الكرملين» الروسي؟ وهل يمكن وصف العلاقات بين موسكو وبكين «بالتحالف العسكري والسياسي» لمواجهة التحالفات الضخمة التي أسستها الولايات المتحدة وتستهدف بشكل واضح كُلّاً من روسيا والصين؟

  • لماذا الآن ؟

المراقب للتفاعلات السياسية والاقتصادية والعسكرية الروسية والصينية يتأكد له أنها وصلت بالفعل إلى أعلى درجة من التنسيق بين البلدين الكبيرين، ورغم أن العلاقات بين البلدين تاريخية، وجرى تبادل البعثات الدبلوماسية قبل 75 عاماً، إلا أن تسريع وتيرة الشراكة والتعاون خلال الفترة الأخيرة يعود لسلسلة من المصالح والمبادئ المشتركة، وأيضاً مواجهة البلدين لضغوط وتحديات متشابهة، ولهذا يرتكز التقارب بين روسيا والصين على مجموعة من المحفزات والقواسم المشتركة من أبرزها:

  • أولاً: القيم المشتركة

جميع وثائق الأمن القومي الأمريكية، وتلك التي أعلنها حلف شمال الأطلسي «الناتو» منذ ديسمبر عام 2017 تستهدف روسيا والصين سواء في أوروبا أو في شرق وجنوب شرق آسيا، وزادت الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في 24 فبراير 2022 من التقارب الروسي الصيني الذي تزامن مع التوتر الشديد في العلاقات الصينية التايوانية، ودعم واشنطن لتايبيه على حساب علاقاتها مع بكين، من هذا المنطلق تنظر روسيا والصين للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين والآسيويين باعتبارهم «عنصر توتر استراتيجياً» للسلام العالمي، بينما العلاقة بين موسكو وبكين تقوم على سلسلة من المبادئ المشتركة أهمها الاحترام والثقة والصداقة والمكاسب المتبادلة التي يجب أن تكون معيار التعاون بين القوى الكبرى«، ولهذا يؤكد الرئيس الصيني شي جين بينغ بأن بلاده سوف تكون دائماً«جاراً جيداً وصديقاً وشريكاً موثوقاً» للشعب الروسي، وينظر«التنين الصيني» و«الدب الروسي» إلى التقدم السريع في العلاقة بين البلدين بأنه «العامل الحاسم» على تحديد الاتجاهات الاستراتيجية للحفاظ على ديناميكيات النمو المستقر والسريع للعلاقات الروسية الصينية، وأن التنمية المستدامة للعلاقات الثنائية سوف تلبي ليس فقط مصالح الشعبين الروسي والصيني، بل سوف تشكل«قيمة مضافة» للسلام والرخاء في آسيا وفي جميع أنحاء العالم، وذلك عبر اعتزام روسيا والصين المحافظة على حسن الجوار، والصداقة الوثيقة، والشراكة الراسخة.

  • ثانياً: الخندق الواحد

تعتمد العلاقات الخاصة بين روسيا والصين على تصور ورؤية مشتركة يتفق فيها الروس والصينيون على أن الولايات المتحدة تمثل«تهديداً رئيسياً واستراتيجياً»، وهذا التوافق يعزز من التحالف الصيني الروسي، فالمعادلات الصينية تقول بأن هزيمة روسيا في أوكرانيا يجعل الغرب يتفرغ لاحتواء وإضعاف للصين، كما تعتقد روسيا أن الدعم الصيني ضروري وحيوي لصمودها في الحرب أطول فترة ممكنة، حيث لا ترى بكين وموسكو أي خيار آخر بديلاً عن الشراكة والتعاون الاستراتيجي بينهما، وتعتبر الحسابات الدقيقة لكل من بكين وموسكو أن كليهما في« نفس الزاوية» و« ذات الخندق»، فالصين ترى في روسيا الصديق القوي صاحب القدرات النووية، والذي يجلس معها على نفس طاولة الأعضاء دائمي العضوية في مجلس الأمن، ويشاركها في حدود طويلة تصل إلى 4300 كلم، وأن التعاون بين البلدين يرسل رسالة قوية للولايات المتحدة التي تتدخل من وجهة النظر الصينية في قضايا تتعلق بالأمن القومي الصيني عندما تدعم واشنطن المعارضة في التبت ومنطقة شينجيانج، وتؤيد استقلال تايوان عن الصين، وتتدخل في قضايا هونج كونج، وتشعل فتيل الخلافات في بحر الصين الجنوبي بين الصين من جانب وبين كل من أستراليا والفلبين وفيتنام وسنغافورة وإندونيسيا وسلطنة بروناي، فضلاً عن دعم الولايات المتحدة الكامل لليابان في قضية«جزر سينكاكو» التي تطالب بها الصين، ورداً على كل هذا لم تُدِن الصين العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، لكنها تدعو فقط لحل الصراع بما يتوافق مع السلام والاستقرار، واحترام مخاوف روسيا الأمنية، وهي المخاوف التي قالت روسيا إنها السبب وراء اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية

وكل ما يصدر عن واشنطن يعزز التقارب بين روسيا والصين، فعلى سبيل المثال أسهم التقرير السنوي للاستخبارات الوطنية الأمريكية، الصادر في 11 مارس 2024، في مزيد من التقارب والتآلف الروسي الصيني عندما وصف نهج روسيا والصين على الساحة الدولية بأنه خطر على مستقبل الولايات المتحدة، وهي نفس الاتهامات التي أرسلها تقرير الأمن القومي للدول الأعضاء في«حلف الناتو» الصادر في مارس الماضي.

وتتفهم الصين مخاوف موسكو من وقوف«قوات الناتو» على حدود روسيا الغربية، لأن الصين نفسها تعاني ذات المشكلة عبر انتشار عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين بالقرب من حدودها، وزيادة وتيرة «انتشار القواعد العسكرية الأمريكية» بالقرب من أراضيها.

الشعور بالتموضع في«الخندق الواحد» مع الصين هو أيضاً عنوان سياسيات«سيد الكرملين»- الذي قام بأول زيارة للصين بعد إعادة انتخابه لولاية خامسة في 18 مارس الماضي -، فموسكو ترى نفسها في«ذات الزاوية» مع الصين في مواجهة تشكيل الولايات المتحدة للتحالفات السياسية والعسكرية التي تستهدف روسيا والصين معاً، فالرئيس بوتين يرى أن الولايات المتحدة التي تقوم بتجييش القوات، وترسل الأسلحة لأوكرانيا عبر حلف«الناتو» هي نفسها التي شكلت تحالفات عسكرية واستخباراتية تستهدف الصين مثل«أوكوس» و«كواد الرباعي» و«العيون الخمس».

  • ثالثاً: مغانم كثيرة

لا تقوم العلاقات بين موسكو وبكين على القيم المشتركة فقط، بل تتعاظم المكاسب والأرباح المشتركة كل يوم، فالتجارة بين البلدين زادت على 240 مليار دولار عام 2023، ويتوقع لها أن تصل بنهاية العام الجاري إلى نحو 300 مليار دولار، وهو ما زاد من«الاعتمادية المتبادلة» بين البلدين في قطاعات حيوية، حيث زاد الاعتماد الصيني على النفط والغاز والفحم واليورانيوم الروسي، كما تستورد روسيا سلعاً استراتيجية من الصين، ويعمل البلدين على مشروع استراتيجي لنقل الغاز الروسي إلى الصين وهو خط «قوة سيبيريا 2» الذي يمكنه نقل 55 مليار متر مكعب من الغاز الروسي سنوياً للصين، وهو ما يحقق فائدة مشتركة للطرفين بعد أن خسرت روسيا مبيعات الغاز لأوربا عبر خطي«نورد ستريم 1» و«نورد ستريم » اللذين تم تفجيرهما في سبتمبر 2022، وتستفيد الصين من هذا المشروع عبر شراء منتجات الطاقة الروسية بأسعار تفضيلية، وهو الأمر الذي يعزز من قوة وصمود ومرونة الاقتصاد الروسي من جانب، ويساعد الاقتصاد الصيني على التغلب على أي عقوبات تفرضها الدول الغربية على الصين، خاصة في ظل فرض الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي ومجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى عقوبات على بعض الشركات الصينية بتهمة أنها تتعاون مع الشركات الروسية المفروض عليها عقوبات من الغرب.

  • رابعاً: العملات الوطنية

تقود روسيا والصين دول الجنوب وبعض الدول الأخرى نحو التخلص التدريجي من سيطرة وهيمنة الدولار الأمريكي على الاقتصاد العالمي، وحاليا يجري تنفيذ 90% من إجمالي المدفوعات بين روسيا والصين بالروبل الروسي واليوان الصيني، وهو ما أضاف قوة وزخماً قوياً لتوسيع التعاملات التجارية بين موسكو وبكين، ونفس المسار بدأت تعمل عليه دول«بريكس» و« شنغهاي للتعاون».

  • خامساً: تنسيق عابر للقارات

أكثر المشاهد التي تكشف التحالف الروسي الصيني هي جلسات مجلس الأمن، فكلا البلدين لديهما مواقف متشابهة وأحياناً متطابقة خاصة ضد الولايات المتحدة والدول الغربية، وهو ما يؤشر بقوة على نشوء وظهور تحالف غير معلن بين الصين وروسيا في مواجهة الأجندة السياسية الغربية سواء في مجلس الأمن أو في باقي المنظمات والهيئات الدولية.

  • سادساً: عالم متعدد الأقطاب

أكثر الملفات والقضايا التي تتطابق فيها رؤية موسكو وبكين هي دعوة البلدين للعدالة في العلاقات الدولية عبر الانتقال إلى«عالم متعدد الأقطاب» مقابل عالم تقوده الولايات المتحدة عقب وفاة نظام«القطبية الثنائية» بتفكك الاتحاد السوفييتي السابق في 25 ديسمبر عام 1991، ويعتقد القادة الروس والصينيون أن«عالماً متعدد الأقطاب» سوف يكون أكثر تعبيراً عن مصالح ودول شعوب العالم خاصة دول الجنوب في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وأن هذا يتحقق فقط بالتطبيق الكامل لمواثيق الأمم المتحدة والقانون الدولي، وهذا يتوافق مع ظهور قوى دولية جديدة لم يكن لها نفس الثقل والوزن عام 1991 بعد أن أصبحت مجموعات وتكتلات سياسية واقتصادية تقودها الصين وروسيا تنافس بقوة المجموعات السياسية والاقتصادية الغربية، فعلى سبيل المثال بات الناتج القومي لمجموعة «بريكس» أكبر من الناتج القومي لمجموعة«الدول الصناعية السبع الكبرى»، كما أن التسابق على دخول مجموعة «شنغهاي للتعاون» يكتسب قبولاً ورغبة في الانضمام للتكتل الآسيوي الأوروبي كل يوم.

  • سابعاً: مساحات الاختلاف والاتفاق

تدرك روسيا والصين أنهما في« وضع جيوسياسي مختلف ومتباين»، وبينما يرسل الغرب السلاح والذخيرة لأوكرانيا لهزيمة روسيا، ما يزال نفس الغرب يتعامل بنحو تريليوني دولار سنوياً مع الصين منهم 990 مليار دولار حجم التجارة الأوربية مع دول الاتحاد الأوروبي، ونحو 700 مليار بين الصين والولايات المتحدة وأكثر من 450 مليار دولار بين الصين من جانب وحلفاء واشنطن الآسيويين منهم اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلاند، وكل هذا يجعل مقاربة الصين مختلفة عند التعامل مع الولايات المتحدة والغرب، ففي الوقت الذي يمكن لروسيا القيام بمخاطر كثيرة، تبقى الصين تتعامل بحذر مع الغرب، لكن ما يضمن بقاء وديمومة التحالف غير المعلن بين روسيا والصين أن كليهما يعلم ويحترم الصيغة التي يتعامل بها الطرف الآخر.

  • هل يتكرر سيناريو كيسنجر ؟

المعروف أن وزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر أسس سمعته كعبقري في العلاقات الدولية عندما نجح في التقريب بين الصين والولايات المتحدة عام 1972، وكانت النتيجة هي«عزلة الاتحاد السوفييتي»، لكن اليوم تدرك بكين وموسكو أن تكرار هذا«الفخ الاستراتيجي» بات من المستحيلات، لأن كلّاً من موسكو وبكين تدرك جيداً أنه في اليوم الذي تنتهي الولايات والغرب من الصين أو روسيا سوف تتجه فوراً للمواجهة مع الطرف الآخر، ولهذا باتت هندسة«انقسام ثانٍ» بين روسيا والصين يحتاج «لعبقرية مبدعة وجديدة»، وهذا لا يتوفر للغرب على الأقل في المديين القريب والمتوسط.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mw9ysbma

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"