عادي
في شاعرية البصر

«الكوفي المضفور».. الجمال ابن الحكمة

22:54 مساء
قراءة 3 دقائق
صلاح عبد الخالق

الشارقة: جاكاتي الشيخ

لا ينقضي الإعجاب والانبهار من جماليات الخط العربي بمختلف أنماطه، بفضل ما تختزنه تلك الأنماط من سمات فنية متنوعة، تشكّل السر في عظمة هذا الفن الأصيل، بما تمنحه للخطاطين من آفاق إبداعية تمكنهم من تقديم الجديد بقدراتهم الخاصة، ومن هؤلاء: الخطاط المصري صلاح عبد الخالق الذي آثر إبراز ذلك التنوع في نوع خطي واحد هو الكوفي.

عرف صلاح عبد الخالق بجهده الكبير الذي يتجلى في أعماله الكثيرة، وما تزخر به من قيم فنية، تكشف أسرار جمال الخط العربي، وخاصة الكوفي، الذي برع فيه وأبدع إلى حد بعيد، حيث مكنته مرونته من إتقانه، ليقدم فيه أعمالاً لافتة، بتصاميم مختلفة الشكل، تظهر فيها مهارته في القدرة على استلهام روح الخط نفسه، وابتكار أشكال وأعمال فنية تبتعد عن التكرار وتكسر الشكل التقليدي، وتنحو إلى التميز الحقيقي، ومن تلك الأعمال هذه اللوحة التي خطها بواحد من أصعب وأجمل أنواع الخط الكوفي.

  • تداخل

خط عبد الخالق لوحته بنص مأثور عن نبي الله عيسى عليه السلام، يقول فيه: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان» وكتبه بالخط الكوفي المضفور، وهو خط يتميز بالضفائر المرسومة على شكل أفرع متداخلة ومضافة إلى حروفه العمودية والقائمة، حسب فكرة التضفير وتنوعها غير المحدود، ويعتبر نوعاً من الزخارف الكتابية التي يبالغ في تعقيدها أحياناً، إلى حد يصعب فيه التمييز بين عناصره الخطية وعناصره الزخرفية، إلا أنه يتمتع بملامح جمالية لا تخطئها العين، تتجلّى في عدة خصائص مميزة، منها ترابط متانة تكوينه الخطي، وتشابك حروفه في ما بينها مُشكّلة زخرفة فنية آسرة، وقد تضفر الحروف في الكلمة الواحدة أو في أكثر من كلمة، وهو ما حرص عبد الخالق على تنفيذه ببراعة في اللوحة.

لقد اختار الخطاط نص اللوحة لقيمته الإنسانية الراقية، والتي تصلح للتجسيد كقيمة فنية وجمالية مبهرة، فهي دعوة إلى مبدأ الكرامة، تنبه إلى أن حياة الإنسان بكرامة أجدى وأكثر نفعاً من حياته بخبزه، أي عيشه وما يكسب من أجله، فقد يقبل بعض الناس أن يتنازل عن كرامته في سبيل أن يحصل على لقمة عيشه، ناسياً أن بإمكانه الحصول عليها بكرامة، لأن قبوله للإهانة يسيء إلى نفسه أكثر من أي شيء آخر، ما يؤدي إلى احتقاره لذاته، وفقده للإحساس بقيمته كإنسان خُلق مكرّماً، ثم احتقار الآخرين له، بينما يعيش ذو الكرامة عزيزاً في نفسه وعزيزاً لدى الآخرين.

  • تفاصيل

استطاع عبد الخالق تنفيذ لوحته الخطية ملتزماً بأدق تفاصيل خصائص الكوفي المضفور، فصممها بتكوين خطي مربع، حيث بدأ بكتابة «ليس» أفقياً في قاعدة الشكل، ومدّ لامها لتضفر مع عدة حروف عمودية أخرى، ومحدّدًا من خلالها الضلع الأيمن لشكله المربع، ثم كتب «بالخبز» في نفس المستوى الأفقي من القاعدة، جاعلاً من ألفها شكلاً مقوساً نحو «ليس»، ومحدثاً تداخلاً بينهما مع اللام، في شكل مضفور يشبه «لا»، وكأنها لا نافية يؤكد بها النفي الوارد في المقطع الأول من النص «ليس بالخبز»، ثم كتب «وحده»، في ذات المستوى الأفقي من القاعدة أيضاً، مادًّا طرف هائها لتضفر مع عدة حروف عمودية هي الأخرى، ومحدّداً من خلالها الضلع الأيسر لشكله المربع، ومادّاً خطاً ينطلق من طرف دالها مقوَّساً ليتصل بالألف الأخيرة لكلمة «الإنسان»، محدثاً تداخلاً بينها مع امتداد الهاء، في شكل مضفور يشبه «لا» ثانية، وكأنه نفي آخر يزيد تأكيد النفي السّالف، ثم كتب «يحيا» في الجزء الأوسط العلوي للشكل، ضافراً ألفها في زخرفة بديعة تعود منها لتتصّل بيائها، وكأنه يشير إلى قيمة الحياة التي يدور الإنسان في فلكها، ثم كتب «الإنسان» في قلب الشكل ليوحي بأن قيمة الإنسان تتحدد بقيمة نفسه لديه، وهي القيمة التي يجب أن تكون الكرامة أهم محدّداتها، وقد حقق من خلال هيئة لوحته توازناً واضحاً ما بين الأجزاء المكونة لها، من خلال عملية الضفر والتداخل والترابط والزخرفة، وطريقة وضع النقاط، وهي كلها سمات أبرزت الجوانب الجمالية للوحة، التي تظهر المميزات المبهرة للخط الكوفي المضفور.

كما بدت اللوحة مشرقة من خلال عدة سمات، كاختيار اللون الأسود ذي الرمزية الإيجابية لكتابة النص، واللون الأحمر ذي الرمزية العاطفية المؤكدة على قوة الارتباط للون بعض النقاط، والبؤرة النورانية المنبعثة من قلب الشكل، فهي كلها سمات تجعل المشاهد للوحة أمام تحفية فنية حقيقية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdeuebp8

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"