عادي
صدر في الشارقة

رواية «العهود»... السرد صوت المضطهدين

14:47 مساء
قراءة 5 دقائق
رواية «العهود»... السرد صوت المضطهدين

السرد الحقيقي هو الذي يثير الأسئلة داخل القارئ، الذي يجعله في حالة متواصلة من التأمل والتأهب لمعرفة المصائر، وهو كذلك الذي تتوفر فيه الدلالات والمعاني والعلامات التي يلتقطها المتلقي لكي تضيء له الكثير من الجوانب المظلمة والفجوات التي تركها المؤلف متعمداً احتراماً لقارئه الذكي، تلك هي الروايات التي تخلد في عقول وقلوب البشر لأنها أفلحت في رصد الواقع واقتربت من التعبير عن عوالم الإنسان المتنوعة.
رواية «العهود»، للكندية مارجريت آتوود، الصادرة في نسختها العربية عن دار روايات في طبعتها الأولى عام 2021، بترجمة: إيمان أسعد، هي بمثابة الجزء الثاني من رواية آتوود اللافتة «حكاية الجارية»، ففي ذلك العمل السردي المميز، طرحت الكاتبة الكثير من الأسئلة المتعلقة بالبطلة، استفهامات تخص المرأة وقضيتها بل وقضاياها، لتعود بعدها المؤلفة، بعد أكثر من 30 عاماً، على الجزء الأول، لتحاول الإجابة عن تلك الأسئلة الإنسانية الحارقة التي حيرت القراء، ولكن ماذا فعلت آتوود؟ لقد طرحت المزيد من الأسئلة، وذلك هو دور المثقف والكاتب، أن يطرح السؤال الصحيح لكي يشكل حالة من الاهتمام بالموضوع، وفي هذا الجزء تستعيد آتوود أجواء «جلعاد»، المدينة الدستوبية المتخيلة، وتعمل على التركز على الجوانب الخفية لبعض الشخصيات التي لم تفرد لها المساحة الكافية في «حكاية الجارية».

*أجواء
في الجزء الثاني من الرواية، يتابع القارئ مصير بطلة الحكاية أوفرِد، عبر ثلاثة أصوات نسائية مختلفة يكشف كلّ منها جانباً خفياً من جلعاد، والتي هي بمثابة فضاء وقعت فيه الأحداث، وجرت فيه التفاصيل العجيبة، حيث كانت البطلة في «حكاية الجارية»، على وشك الهروب من جلعاد إما نحو الفخ القاتل، أو الحرية في كندا، ليتابع القارئ تفاصيل تلك الرحلة في سرد ينهض على فكرة قيمة الرفض، رفض العبودية بشكل مطلق، واستعباد النساء واضطهادهن بصورة أكثر خصوصية.

*حبكة
وصفت حبكة الرواية بالاستثنائية، ذلك لكونها تقوم على العديد من التقنيات وبأسلوبية ذكية، ولغة تهز المشاعر، حيث يطرح العمل رؤية وقضية، ولابد من الاستعانة بكل الأساليب التي من شانها أن تؤثر في القارئ، وذلك ما فعلته الكاتبة تماماً، حيث نجحت في صناعة الصور والمشهديات والحوارات والمقاطع التي ستظل باقية في أذهان القراء، إضافة إلى صناعة الشخوص والنقاشات القوية بينها، إضافة إلى حوار الذات، ولئن كان الجزء الأول «حكاية الجارية»، قد خصص الجزء الأكبر لمقولات وقصص بطلة العمل، فإن هذا الجزء الثاني، هو بمثابة مسرح تتجول فيه بقية الشخوص، تروي حكايتها، ويقدم السرد إضاءات كافية عنها، فالجزء الثاني، هو بمثابة تكملة لمقولات مبتورة، أو كلمات لم تقل، إذ لم تشأ الكاتبة أن تجعل القارئ يركن إلى الحيرة التي خلفتها أحداث قصة «حكاية الجارية»، فكانت «العهود»، هي الضوء الساطع الذي سلط على الشخصيات وبعض الأحداث التي تترابط في السرد بطريقة مميزة، فعلى الرغم من تناثر الحكايات، إلا أنها تتجمع لتصب في المجرى العام لنهر الأحداث، ولسوف يدهش القارئ بتلك الجماليات الكامنة في توظيف الوصف المحيط بكل شاردة وواردة، والانتقال بين الماضي والحاضر، وإخفاء الفكرة والرؤية الفلسفية في ثنايا الحكاية من دون أن يخدش جمال السرد، بل يخدمه بصورة مميزة.
*عوالم
ولعل براعة الكاتبة في هذا الجزء الثاني تتضح بشكل أكبر منذ العنوان، كعتبة نصية مهمة، «العهود»، فهو يحمل معنى «الوصايا»، و«المواثيق»؛ أي ما يعمل الإنسان على تحقيقه من مبادئ، وذلك يتفق تماماً مع فكرة المؤلفة في «حكاية الجارية»، إذ تواصل آتوود، في هذا الجزء صرختها ضد الظلم والفساد، ضد الرجال الفاسدين في مدينة جلعاد، وتتعمق أكثر في تكوين فكرة متبصرة حول كيف تحول الذكور هناك إلى تلك الكائنات التي بلا قيم ولا أخلاق، وتمارس فعل الكشف عما وراء السلوك الذكوري المتجبر، انحيازاً لحياة النساء المضطهدات في تلك البقعة المتخيلة، فهؤلاء النسوة في هذا الجزء من الرواية لسن مستكينات على الإطلاق بل متمردات وثائرات، يستطعن تحقيق كثير من الإنجازات على رأسها الوقوف ضد حكومة جلعاد المتعالية المتغطرسة التي تمارس فعل الهيمنة الذكورية.
*أصوات
وتتابع الرواية قصص وحكايات بطلات العمل من نساء جلعاد، ووقفتهن الصلبة من أجل حقوقهن، إذ تبرز ثلاثة أصوات نسائية هي بمثابة الراوي في العمل، وهن: أغنيس جيمينا التي كبرت في جلعاد، وديزي التي حملت معها الرعب والخوف، والعمّة ليديا، الشخصية الرئيسية من الرواية السابقة، إضافة إلى شخصيات أخرى تحتل أيضاً مكانة مركزية، فليس ثمة امرأة تقبع في الظلال في عوالم آتوود السردية، فتفرد مساحة كبيرة لـ«العمات»؛ أي النساء اللواتي يربين الخادمات، أو العمات المتدربات، وأطفال الخادمات الذين يتربون على أيدي القادة وزوجاتهم، حيث تغوص الرواية عميقاً في تلك المجاهيل والمخابئ السرية.
*نشاط ذهني
الرواية وجدت صدى عند النقاد والقراء في مختلف أنحاء العالم، ويكفي أنها قد فازت بجائزة البوكر البريطانية عام 2019، وقد أشار الكثيرون إلى أن قيمة هذا العمل تكمن في جعل القارئ في حالة نشاط ذهني، حيث تمارس فعل التحريض على التفكير والتنبؤ بالأحداث والمصائر، ولئن كانت الرواية قد صنعت فضاء متخيلاً «مدينة جلعاد»، فهي تمارس فعل الإسقاط بقوة على الواقع، حيث لا تزال العبودية بأشكال مختلفة قائمة، وكذلك الموقف من النساء وقضيتهن، وربما ذلك ما جعل العديد من النقاد يشيرون إلى تفوق هذا الجزء الثاني «العهود»، على الأول، وذلك عبر الإعلاء من قيمة الرموز والأفكار.
*مصير
وتقول الكاتبة مارجريت آتوود عن الرواية: «كتبت العهود في أماكن كثيرة في مقصورة قطار ذات قبة علقت على جانب السكة إثر انهيار طيني، في عدة سفن، في عدة غرف فندقية، في وسط غابة، في وسط مدينة على مقاعد الحدائق، وفي المقاهي، كلمات منها نقشتها على المناديل الورقية وعلى اللاب توب. والعهود في جزء منها، كتبت في عقول قراء سلفها، حكاية الجارية لمن ما برحوا يتساءلون عما جرى بعد نهاية الرواية. خمسة وثلاثون عاماً مرت ولهو دهر طويل من الزمن للتفكر في الأجوبة المحتملة، فالأجوبة تبدلت مع تبدل المجتمع نفسه، والاحتمالات استحالت واقعاً قائماً. مواطنو العديد من الدول، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية، يرزحون اليوم تحت ضغوط كبيرة لم يعهدوا مثيلاً لها قبل ثلاثة عقود. سؤال واحد حول حكاية الجارية ظل يتردد: كيف سقط نظام جلعاد؟ والعهود كتبت رداً على هذا السؤال. فالأنظمة الدكتاتورية قد تنهار من الداخل مع فشلها في الإيفاء بوعودها التي صعدت بها إلى رأس السلطة؛ أو قد تسقط إثر هجوم خارجي؛ وأحياناً معاً. فلا معادلة هناك أكيدة وثابتة، بما أن أقل القليل من التاريخ حتمي لا يقبل التشكيك».
إضاءة
مارجريت إلينور آتوود، المولودة في عام 1939، كاتبة كندية وشاعرة وناقدة أدبية وناشطة في المجال النسوي والاجتماعي. وهي أحد أهم كتاب الرواية والقصص القصيرة في العصر الحديث، وحصلت على العديد من الجوائز والأوسمة داخل كندا وخارجها.
*اقتباسات
«الأموات وحسب يسمح لهم بأن يحظوا بتماثيل».
«من ضمن تلك البصمات الملطخة بالدماء، بصمات أصابعنا».
«على جلعاد أن تؤول إلى الزوال، فهي ترزح تحت خطاياها».
«طائر السماء ينقل الصوت، وذو الجناح يخبر بالكلام، والحب قوي كالموت».
«الحرية عبء ثقيل، واجب عظيم وغريب على الروح».
«الكثير من الماضي يجرفه محيط الزمن، حيث يظل غارقاً للأبد».
«التاريخ لا يعيد نفسه، بل يتبع ذات القافية».
«عندما تقع السلطة في يد أرذل القوم، يصبحون الأكثر وحشية في استغلالها».
«الخوف متأهب على الدوام لملء أي فراغ».
«لك أن تغضب من الأموات كما تشاء، لكنك لن تحظى بنقاش معهم».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4nf4f8yw

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"