عادي
في شاعرية البصر

«الديواني الجلي».. الحروف تبحر في تخوم الذائقة

15:47 مساء
قراءة 3 دقائق
أنور الحلواني

الشارقة: جاكاتي الشيخ

رغم كونه خريج قسم الغرافيك في كلية الفنون الجميلة في جامعة حلب؛ ظل الفنان السوري أنور الحلواني مسكوناً بشغفه بالخط العربي التقليدي، مؤمناً بأهمية هذا الفن، وقدرته على تقديم المزيد من القيم الجمالية، حيث كان بإمكانه التوجه إلى تنفيذ أعماله على الكمبيوتر، بحكم التخصص الأكاديمي، أو الدخول إلى مجال الحروفية بحكم تمكنه من الفن التشكيلي، إلا أنه اختار أن يقتصر على الإبداع في هذا الفن الأصيل.
يتميز أسلوب الحلواني بما يتجلّى في لوحاته من اجتهاد على تطويع أدواته لإنجاز رؤيته الخاصة، ليتناغم العمل مع التكوين المُخطَّط له، حيث يساوي المسافات بين الحروف، ويزن تموضع الكلمات، وينوع لون الحبر في الكتابة، ويبتكر شكل التصميم، ليخرج الشكل في انضباط وتناسق فني يضع المشاهد أمام أبهى جماليات الخط العربي، كما يظهر في اللوحة التي نتناولها في هذه القراءة.
*تناسق
اختار الحلواني للوحته نص الآية 12 من سورة التوبة، التي يقول فيها جلّ وعَلا: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، حيث التقطت ذائقته الفنية الشكل المتناسق للكلمات المتتالية في الآية، وأراد أن يخرجها في قالب جمالي آسر، فكتبها بتركيب خط الديواني الجلي، الذي يستمد جماليته من عدة خصائص، منها استدارة حروفه وتداخلها، وكثرة العلامات الزخرفية التي تملؤ الفراغات بينها، وهي مميزات قد تكون على حساب سهولة قراءة المتلقي للوحة أحياناً، حتى إنه قد يصعب التمييز بين بعض حروفه، مثل الألف واللام إن كانا في بداية الكلمة، إلا أنها تكسبه هيئة جمالية خاصة، بالإضافة إلى أن هذا الخط قابل لتنويع التصاميم، مثل شكل القارب الذي اعتمده الحلواني في لوحته هذه، ودائرة الشمس البرتقالية التي تعلوه.
وتصف الآية المكتوبة صفات المؤمنين الذين يبشرهم الله بالجنة، فهم التائبون الذين يَعدِلون عن فعل الأعمال السيئة التي يكرهها الله، ليفعلوا الأعمال الخيّرة التي يحبها الله ويرضاها؛ الذين يخلصون في عبادتهم إياه وحده ويجتهدون في طاعته، ويحمدونه على كل ما يبتليهم به من خير أو شر، امتحاناً لشكرهم وصبرهم، ويصومون كما أمرهم، ويؤدون صلاتهم فيحسنون ركوعها وسجودها كما أمرهم أيضاً، ويأمرون الناس كذلك بكل ما أمر الله ورسوله به، وينهونهم عن كل ما نهى الله ورسوله عنه.
*جهد
إن من يشاهد هذه اللوحة يدرك الجهد الذي بذله الحلواني من أجل أن تخرج بهذا الجمال، فقد أحكم تصميمها، ونفذها بأبرع ما يمكن أن تنفذ به خصائص الديواني الجلي، فهي قارب من الحروف يبحر في تخوم الذائقة الراقية، حيث استغل الخطاط تتابع الكلمات المتناسقة في النطق والشكل، واسترسل في كتابتها أفقياً جاعلاً من الأحرف الممدودة المائلة أشرعة للقارب، ومن الأحرف المنبسطة المُرسلة حوضاً له، فكتب كلمة «التَّائِبُونَ» بألف مقوّسة؛ مُركّباً مقطعي الكلمة فيما بينهما، ثم أتبعها بكلمة «الْعَابِدُونَ»، لتشكل الكلمتان شراعاً، ثم كلمة «الْحَامِدُونَ» التي باين بها مستوى الحروف الممدودة، لتشكل مع كلمة «السَّائِحُونَ» والمقطع الأول من كلمة «الرَّاكِعُونَ» شراعاً ثانياً، وقد ركّب مقطعي كلمة «السَّائِحُونَ» فيما بينهما، ثم واصل كتابة «الرَّاكِعُونَ» التي جعل كافها لاماً لتناسق الشكل، وأتبعها بكلمة «السَّاجِدُونَ» مُركبّة، ثم حرف العطف «و» وكلمة «الْآمِرُونَ»، جاعلاً منها كلّها شراعاً ثالثاً، ثم كتب مقطع «بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ» كلّه مركِّبا كلماته فيما بينها، وجاعلاً منه شراعا رابعاً، فيما كتب أيضاً مقطع «وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» كلَّه مركَّبا فيما بينه في شكل شمس برتقالية اللون،
ومن الملاحظ كتابته للحروف المتشابهة بنفس الهيئة، مثل الواوات التي كتبها بنفس الشكل والحجم، وكأنه بهذا الشكل العام، يريد أن يشير إلى أن المتصفين بهذه الصفات يبحرون في بحر الحياة بثقة – يمثلها لون الحبر الأسود – نحو ما ينتظرهم من عطاء الله وسعادة في الجنة، وهو ما يمثله اللون البرتقالي للشمس.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/muvppv7b

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"