الدولة/ الأمة في العالم العربي

05:07 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

أوضح المثال السوري، عبر صيرورة الصراع الدائر خلال الأعوام الماضية، أن الدولة هي من أبرز الخاسرين في هذا الصراع، وليس المقصود هنا الدولة بوصفها السلطة السياسية، بل بالمعنى الذي طرحه فريدريش هيجل (1770-1831)، أي باعتبار «الدولة حقيقة التاريخ»، فما أنجزه السوريون من دولتهم منذ تأسيسها في عام 1920 خسروه خلال بضعة أعوام؛ حيث تؤكد اللوحة الحالية أن الدولة التي كانت قائمة في 2011 لم تعد موجودة اليوم؛ حيث تتواجد اليوم العديد من القوى الدولية والإقليمية بشكل مباشر على الأرض السورية، وهو ما يشير بشكل مباشر إلى افتقاد ما تبقى من الدولة إلى أحد العناصر الرئيسية للدولة، وهو سيادتها على أراضيها.
كما أن المكون الثاني من مكونات الدولة المتعلق بالسكان، فقد تعرّض هو الآخر إلى استباحة كاملة؛ حيث لجأ أكثر من ستة ملايين نسمة خارج البلاد، كما نزح قرابة العدد نفسه داخلها، لأسباب عديدة، من بينها التهجير القسري لمناطق بعينها من جانب قوى عديدة، وهو ما ترافق مع انقسام حاد في الولاءات، كمؤشر مباشر على تمزّق العقد الوطني، وعلى أن الدولة - عبر صيرورتها - لم تتمكن فعلياً من تجاوز الهويات الاجتماعية السابقة للدولة، ولم تتمكن من إنجاز هوية وطنية جامعة.
في هذا السياق، يشكل المثال السوري مدخلاً لنقاش مسألة الدولة/ الأمة في العالم العربي، انطلاقاً من كون الحدث السوري هو تجربة دالّة على مأزق التغيير كاستحقاق تاريخي، لكن ليس من الضرورة أن كلّ استحقاق تاريخي يجب أن يؤدي إلى النتائج التي وصل إليها المثال السوري، مع الأخذ بالحسبان أن تكسّر عناصر الدولة السورية في الصراع هو إحدى نتائج عدم معالجة الاستحقاقات التي ظلت قابعة في خانة المؤجل عبر عقود.
لقد سعت مختلف النخب السياسية، في معظم الدول العربية، منذ حقبة الاستقلال عن الانتدابات، إلى إيجاد مرجعيات كبرى لمشاريعها السياسية، من مثل القومية العربية، والأمة الإسلامية، والأممية، والأمة السورية، مستندة، أي تلك النخب، إلى قراءات عابرة للوطنية، كردة فعل حيناً على رفض الخارج، كما في حالة رفض ما أنتجه سايكس - بيكو، أو إلى التاريخ، كما في التيارات الإسلامية، أو إلى معطيات الصراع بين الشرق والغرب، كما في التيارات الأممية، أو إلى التميّز الحضاري عند القوميين السوريين.
كل تلك التيارات أهملت الحاجة إلى الانطلاق من الواقع نحو المثال، أي من الحالة الوطنية الخاصّة نحو المشروع السياسي؛ حيث اعتبرت تلك المشاريع أن الدولة القائمة هي دولة مؤقتة إلى حين تحقق المشروع الكبير. فعلى سبيل المثال، رأى القوميون أن الدولة القطرية هي مجرد مرحلة عابرة في طريق بناء الدولة القومية، ورفعت الأحزاب القومية شعار «الوحدة العربية» بوصفه الغاية الأسمى، في الوقت الذي رأى فيه الإسلاميون أن النضال العقائدي يجب أن يكون من أجل الأمة الإسلامية، ما جعل الدولة القائمة في نظرهم متناقضة مع مشروعهم، بل وحجر عثرة أمام تحقيقه.
وفي ظل صعود موجة العولمة في العقود الثلاثة الأخيرة، ظهرت نزعة سياسية ترى أن الدولة/ الأمة في طريقها نحو التراجع أمام المعطيات المذهلة لثورتي التقانة والاتصال، وقد انعكست تلك النظرة في عالمنا العربي في هيئة تحوّل عند بعض النخب السياسية التي باتت ترى أن مهمة الدولة هي تحقيق مصالح الشركات والنخب الاقتصادية، الذي يؤدي بالضرورة إلى خدمة تحالف الطبقات الاقتصادية المعولمة، وهو ما يعني تقزيم البعد الوطني إلى مجرد حوكمة، من أجل استدامة مصالح الفئات الاقتصادية المسيطرة.
إن الاستغناء عن مفهوم الدولة/ الأمة، المؤسَّس على الهوية الوطنية، هو أحد مآزق التاريخ العربي المعاصر، فقد أدى تغييب هذا المفهوم إلى الإبقاء على كل الهويات التي تسبق الدولة، فقد ضحّت المشاريع العابرة للوطنية بإمكانية توليد روح وطنية/ قومية؛ إذ إنه بالعودة للمثال السوري، اتضح واقعياً مدى الانقسام الحاصل بين المكونات السورية، فلم يكن ممكناً الاستقواء بالخارج لو أن الهوية الوطنية كانت راسخة، فجميع اللاعبين على الساحة المحلية تعاملوا مع الصراع بوصفه صراعاً فئوياً، وليس صراعاً وطنياً.
وإذا كانت الدولة في تجلياتها المباشرة هي أداة تنفيذية عمومية، فإن الأمة هي روح الدولة، وغياب تلك الروح يجعل من الصراع الوطني، في لحظة الصدام بين السلطة السياسية والمعارضة، أو في حالة الانتفاضات الشعبية، سبباً رئيسياً في تفتيت الدولة، إذ لا يعود الآخر مواطناً، وإنما ضدّاً، يمكن بسهولة الاستعلاء عليه، أو استخدام العنف ضده، وهو ما يؤدي بطبيعة الحال إلى تمزيق الدولة نفسها، فهي باختصار لم تكن فضاء جامعاً، وإنما مجرد أداة تنفيذية بيد السلطة السياسية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"