هل اقترب الطلاق الأوروبي - الأمريكي؟

03:59 صباحا
قراءة 3 دقائق
الياس سحّاب

بدأت العلاقات بين القارتين الأوروبية والأمريكية منذ نهاية القرن الخامس عشر، وهو القرن الذي بدأ في عقده الأخير البحارة الأوروبيون غزواتهم الاستكشافية لمعالم القارة الأمريكية التي أطلقوا عليها اسم «القارة الجديدة»، لذلك كان منطقياً أن تبدأ العلاقات بين القارتين بالتحكم الاستعماري للقارة الأوروبية، بمختلف شعوبها، في معالم القارة الأمريكية، بشقيها الشمالي والجنوبي.
ومع أن هذه العلاقة الاستعمارية انتهت بعد قرون، إلا أن آثارها ما زالت واضحة في أن كل بلدان القارة الأمريكية الأصلية أصبحت تتحدث لغات المستعمر الأوروبي: الانجليزية والفرنسية في شمال القارة الامريكية، واللغتين الإسبانية والبرتغالية في وسط القارة الأمريكية وجنوبها. لكن شعوب القارة الأمريكية ظلت حبيسة قارتها، تستقبل المهاجرين إليها، من بقية القارات، وأولاها القارة الأوروبية، طيلة القرون التي كانت فيها القوى السياسية الأوروبية قد تحولت أيضاً إلى استعمار بقية شعوب الأرض، في قارات آسيا، وإفريقيا، وأوقيانيا.
وأول تبدل جذري في مسار هذه العلاقات التبعية بين أوروبا وأمريكا، نشأ في أعقاب ظهور دولة الولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، حيث بدأت تحتك ببقية الشعوب الواقعة تحت نير الاستعمار الأوروبي. وكانت تجليات هذا التحول بدأت تظهر في الحرب التي حملت في مطلع القرن العشرين اسم «الحرب العالمية الأولي» التي انتهت بمؤتمرات دولية عقدها المنتصرون في القارة الأوروبية، لتنظيم استعمارهم لشعوب بقية القارات، خاصة في آسيا وإفريقيا. عند هذا المنعطف ظهرت الدولة الأمريكية الجديدة الكبرى على المسرح الدولي بمظهر القوة الجديدة الصديقة لتلك الشعوب الأخرى، عارضة عليها خدماتها السياسية في مواجهة المطامع الاستعمارية للمنتصرين الأوروبيين، الذين أخذوا ينظمون فيما بينهم تقاسمهم لاستعمار بقية الشعوب (اتفاقة سايكس - بيكو مثالاً نموذجياً لذلك)، وذلك في عهد الرئيس الأمريكي ويلسون الذي أصدر وثيقة سياسية حاول من خلالها الإطلال الودي على شعوب بقية القارات الواقعة تحت الاستعمار الأوروبي.
بعد ذلك، أعاد ظهور النازية والفاشية في أوروبا الاقتتال في مذبحة حملت اسم الحرب العالمية الثانية، انتهت في خلاصتها إلى إنهاك القارة الأوروبية، وخلخلة أوصالها، في حرب انضمت فيها الدولة الأمريكية إلى الحلفاء الأوروبيين، الذين رغم انتصارهم العسكري النهائي، خرجوا منهكين اجتماعياً واقتصادياً، لتنقلب هنا العلاقة بين القارة الأوروبية والقارة الأمريكية، فتتقدم الولايات المتحدة الأمريكية لمساعدة شعوب أوروبا المنهكة (المنتصرون فيها والمهزومون)، وكان مشروع مارشال الأمريكي لمساعدة شعوب أوروبا للنهوض من كبوة الحرب العالمية الثانية، هو الاسم الملطف لحقبة سيطرة أمريكية امتدت طوال النصف الثاني من القرن العشرين التي تحولت فيها شعوب أوروبا الغربية بالذات، لمرحلة ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا إلى الدخول في إطار التبعية للقوة الأمريكية الصاعدة، والمنتشرة عالمياً في سائر البقاع السابقة للاستعمار الأوروبي.
وكان الموقف الأمريكي بعد حرب السويس 1956 التي شهدت غرق الإمبراطوريتين الاستعماريتين، (بريطانيا وفرنسا)، على حد تعبير المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، حيث تقدمت الولايات الأمريكية المتحدة لوراثة كل ما تبقى من مناطق نفوذ استعماري، خرجت منها بالتدريج قوى الاستعمار الأوروبي.
هذه المرحلة شهدت بشكل عام، حالة للعلاقات هي أقرب إلى التبعية الأوروبية لمواقف الاستعمار الجديد، الزاحف بقوة، أي الولايات المتحدة التي تحولت إلى قوة عالمية آحادية في السنوات التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي، السد الوحيد المتبقي لمواجهة انتشار النفوذ الأمريكي.
وباختصار شديد، يمكن أن نرصد الحالة الراهنة لهذه العلاقات الأوروبية - الأمريكية التي يزداد فيها التماسك الاقتصادي بالذات، والسياسي للقارة الأوروبية، في مقابل تراجع عدد من المشاريع الاستعمارية الأمريكية، وإصابتها بحالات من الفشل المتتالي، في شتى أنحاء العالم.
يمكن القول إننا حالياً، نعيش مرحلة من التململ الأوروبي في قبضة النفوذ الأمريكي، خاصة الدول الكبرى في أوروبا الغربية، وفي الأساس منها ألمانيا وفرنسا بشكل خاص، حيث بدأت تظهر تناقضات في كثير من المواقف الدولية بين مجموع دول الاتحاد الأوروبي، من جهة، والولايات المتحدة، من جهة أخرى، باستثناء دولة بريطانيا المصرة على الاستمرار في تبعيتها للنفوذ الأمريكي، وبعض الدول الصغرى في أوروبا الشرقية، ذات الوزن الضئيل في المجالات الدولية.
صحيح أن هذه التناقضات التي يعبر عنها التململ الأوروبي ما زالت ضعيفة نسبياً، لكنها تتسع يوماً بعد يوم، خاصة في مجال الحرب الشرسة التي أعلنها عهد دونالد ترامب، على كل الخصوم والحلفاء، في آن واحد، وعلى رأسها الحرب التجارية العالمية المعلنة.
ومن يتابع تصريحات المستشارة الألمانية ميركل، والرئيس الفرنسي ماكرون، في التصدي المتواصل لحفلات الجموح الهجومي التي يخوضها الرئيس الأمريكي ترامب، يكتشف أننا أمام مقدمات قد تقود إلى حالة طلاق بين القارتين الأوروبية والأمريكية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"