محاولة إخفاء الوجه القبيح للمجتمع الصهيوني

03:44 صباحا
قراءة 4 دقائق

رغم محافظة تكتل الليكود وحزب إسرائيل بيتنا على الصدارة في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، فإن نتنياهو خرج من هذه المعركة السياسية أكثر ضعفاً وأقل قدرةً بالتالي على فرض خياراته الاستراتيجية على شركائه السياسيين المحتملين، وأفصحت هذه المحطة الانتخابية الجديدة عن بداية بروز ممارسة سياسية جديدة، يمكن وصفها بظاهرة التسكّع السياسي . إذ يلاحظ أن أغلب القوى الجديدة التي أحدثت المفاجأة، وحصلت على نسبة معتبرة من مقاعد الكنيست، خرجت جزئيّاً أو كليّاً من رحم التشكيلات السياسية التقليدية المعروفة، الأمر الذي يرمز إلى تدشين مرحلة جديدة في مسار العمل السياسي في إسرائيل، يمثل الترحال والتجوال السياسي أهم سماتها الأساسية .

الملاحظة الأخرى الأساسية التي يمكن أن نسجّلها في هذا السياق تتمثل في الصرخة المحتشمة التي أطلقتها بعض قوى الوسط العلمانية داخل المدن الإسرائيلية الواقعة ضمن الخط الأخضر، والتي باتت تضيق ذرعاً بالمزايا العديدة التي تمنحها الدولة لطلبة المدارس الدينية وللجمعيات اليهودية على حساب جيوب دافعي الضرائب الإسرائيليين، وقد أوضح الزعيم الجديد لهذه القوى، في السياق نفسه، أنه من غير المقبول أن يُعفى طلبة المدارس الدينية من أداء الخدمة العسكرية التي تستغرق ثلاث سنوات كاملة . ويمكننا أن نشير هنا إلى أن من أهم الشعارات التي رفعها يائير لابيد الذي حصل حزبه الجديد الموسوم: هناك مستقبل، على 19 مقعداً في الكنيست، هو إرغام اليهود الأرثوذكس على تقاسم الأعباء مع الطبقات الوسطى في المجتمع، سواء تعلق الأمر بالمسائل الاقتصادية أو بالقضايا المرتبطة بالأمن والدفاع .

غير أن هذه الصرخة الانتخابية لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما فقدت الجزء الأكبر من تميّزها وبريقها عندما أعلن لابيد أنه لا يعارض الانضمام إلى حكومة نتنياهو المقبلة مؤكداً: أن نتائج الانتخابات الأخيرة كانت واضحة، ويجب أن نعمل بشكل جماعي . كما أن التقدم الذي حصل عليه التيار المحسوب على الوسط سيصبح غير ذي معنى حينما نأخذ في الحسبان الانتصار الآخر الذي أحرزه حزب المستوطنين في هذه الانتخابات البرلمانية، الأمر الذي يوضح بجلاء، أن المجتمع الصهيوني يظل في جوهره مجتمعاً يمينياً لأنه تأسّس انطلاقاً من أفكار وقناعات دينية وعنصرية، تنظر إلى الإنسان نظرة احتقار واستعلاء، من منطلق أن العقيدة اليهودية تُقصي في شرائعها كلّ ما ليس يهودياً من ملكوتها الرباني .

لقد تحلّل معسكر نتنياهو بشكل كبير، وذهب قسم من مؤيديه الذين يرفضون الحصانة والحماية التي يتمتع بها التيار الديني من جهة، والذين يرفضون أيضاً المزايدات السياسية لغلاة المستوطنين من جهة أخرى، نحو معسكر الوسط بقيادة الزعيم السياسي الجديد لابيد . وعليه فقد استطاع نفتالي بنّات أن يستقطب في اللحظة المناسبة قسماً معتبراً من المتطرفين الذين كانوا يتعاطفون في السابق مع حزب الليكود . ويجد نتنياهو الآن نفسه تائهاً لا تدري رجلاه على أي أرض تقف، لأنه سيضطرّ، خلال الأسابيع المقبلة، إلى تقديم تنازلات كبيرة لخليط سياسي يمتد من أقصى اليمين إلى أقاصي الوسط الذي مازال يجهل حتى هذه اللحظة شكل وطبيعة رهاناته السياسية .

بيد أن هذا الانقسام الذي تتحدث عنه الطبقة السياسية المحلية ووسائل الإعلام الإسرائيلية والأجنبية، ليس له أي تأثير يذكر على سياسة إسرائيل الاستيطانية، ولا على ما يسمى بعملية السلام في المنطقة، فالقضية الفلسطينية ومسألة حل الدولتين لا يحتلان إلا مكانة هامشية في برامج أغلب التيارات السياسية، باستثناء حزب أقصى اليسار . أما الاستفاقة المفترضة للعلمانيين فليس لها في أعين أغلب المراقبين أدنى تأثير في عملية السلام في المنطقة، ف لابيد يتقاسم مع أقرانه في اليمين، الموقف الذي يدافع عما يسمى بوحدة القدس من منطلق كونها تمثل العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل . وبالتالي فإن الذين سيتحالفون مستقبلاً مع نتنياهو، وبصرف النظر عن الاختلافات الموجودة بينهم على مستوى البرامج، سيشتركون في دعمهم لسياسته القمعية ضد الفلسطينيين، وبالتالي فلن يختلف نتنياهو في رقمه الجديد عن نتنياهو في أرقامه السابقة، مادامت الحكومات الصهيونية قد تحوّلت إلى أرقام مستنسخة ترعى التطرف والعنصرية .

إن الظهور والاختفاء المتكرر لقوى الوسط المزعوم في إسرائيل على حساب قوى اليسار أو الوسط الحقيقي، هو تعبير عن إخفاق المجتمع الإسرائيلي في إيجاد قوى سياسية معتدلة قادرة على تحقيق السلام في المنطقة، وهو في اللحظة نفسها محاولة عبثية من أجل إخفاء الوجه اليميني القبيح والمتطرف للمجتمع الصهيوني، الذي يسعى إلى إطلاق فقاعات سياسية من أجل طمأنة القوى الغربية الكبرى الداعمة له، خاصة في هذه اللحظات الدولية الحاسمة، التي بدأ فيها الرأي العام العالمي يعبّر فيها عن انزعاجه من وجود هذه الدولة التي تتصرف وكأنها فوق القانون . ويمكن القول تأسيساً على ما سبق، إن صرخة العلمانية في إسرائيل ليست أكثر من صيحة في وادٍ تسبح فيه القوى الدينية بكل طمأنينة وأمان، لأن الدولة التي شيّدت مُلكها على أشلاء الأبرياء وعلى أسطورة الأرض الموعودة، لا يمكنها أن تُنتج وعياً سياسياً حقيقياً يستند إلى قيم الحرية الليبرالية، وعلى فصل الدين عن الدولة، وعلى المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"