تونس.. عودٌ على بدء

03:01 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمود الريماوي

أثارت الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها تونس خلال الأسبوعين الماضيين موجة من القلق الجدي، ليس على أسلوب الاحتجاج في الشارع، بل لأن هناك أسباباً وعوامل ضاغطة دفعت مئات الشبان للخروج وإعلان السخط والنقمة.
هناك بطبيعة الحال قلق من استهداف ممتلكات خاصة وعامة بالنهب والإتلاف. المشهد يكاد يكون هو ذاته الذي شهدته تونس الخضراء في الشهر الأخير من العام 2010. الفرق الوحيد أن هذه الموجة من الاحتجاجات تتمحور حول مطالب اقتصادية واجتماعية، بينما كانت انتفاضة الياسمين قبل خمس سنوات تطالب بالتغيير السياسي، وتقرن الفساد بالاستبداد.
ومع إقصاء أي مطلب سياسي هذه المرة، باستثناء الدعوة لتغيير المحافظين في مراكز الولايات، فإن الموجة الجديدة تتسم، للأسف، بجنوح أكبر إلى العنف من طرف المتظاهرين، وإن ظل هذا العنف تحت السيطرة، ويتسم بروح «الانتقام الطبقي» والاستعراضي من مراكز تجارية ومالية.
هذه الموجة فاجأت جموع السياسيين والحزبيين والنخب الأكاديمية والإعلامية والثقافية، فبينما كانت انشغالات هؤلاء مشدودة إلى ما يحدث داخل حزب «نداء تونس» الذي تنتمي إليه الرئاسة من صراعات وانشقاقات، إذا بالشعب في 10 مدن على الأقل، بما فيها العاصمة تونس يشهد أولويات أخرى له، وهي وضع حد للبطالة المتفشية التي جاوزت نسبة ستين بالمئة من أعداد الخريجين، فضلاً عن عجز فئات كبيرة عاملة عن الوفاء بمتطلبات الحياة الأساسية.
من المفارقات المؤسفة التي تستحق التوقف عندها أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي لم يتحسن بعد الثورة، بل تراجع. وهو ما أصاب الشرائح الضعيفة اجتماعياً بخيبة أمل كبيرة. وقد كان هذا التراجع يُعزى إلى موجة القلاقل التي شهدتها تونس بعد عامين على الثورة، نتيجة انتشار مد سلفي، وانخفاض ملموس في مستويات السياحة التي تشكل رافداً أساسياً للاقتصاد الوطني، غير أن الفترة اللاحقة التي شهدت الانتخابات البرلمانية والرئاسية الثانية، والتي عبرت بالبلاد نحو مرحلة من الاستقرار والحيوية السياسية معاً، لم تقترن بوضع وتنفيذ برامج تنموية طموحة. وهو ما تسبب بصدمة لدى من خرجوا في ديسمبر/كانون الأول 2010، ممن حملوا رايات الثورة، لكن نجاح الثورة لم ينعكس على حياتهم، وعلى قدرتهم على مواجهة أعباء المعيشة. لقد كانت شرارة ثورة الياسمين ذات مغزى اقتصادي، فحرمان البائع الجوال بوعزيزي من حقه في ممارسة مهنته بكرامة في بلدته سيدي بوزيد، أدى به إلى إحراق نفسه. الذين تسلموا مقاليد الحكم بعدئذٍ تصرفوا على أساس أن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية ترتبط بالنظام السابق، وأن نجاح الثورة وتغيير النظام سيوفر بحد ذاته حلاً شافياً وحتمياً لجميع المشاكل، فإذا بواقع الحال يدل على أن التغيير السياسي لم يكن له انعكاس إيجابي يُذكر على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي. وذلك لغياب رؤية تنموية طموحة تعترف بضخامة المشكلات، وبالحاجة إلى مواجهتها عبر تنشيط اقتصادي وتشاركية اجتماعية وخطة لاجتذاب مستثمرين ومانحين.
يكتشف الشباب الذين قاموا بثورة الياسمين، ومعهم أولئك الذين تفتحت مداركهم بعد التغيير، أن الأحزاب على اختلافها تجزل في نثر الوعود الوردية، لكن هذه الأحزاب، وخاصة تلك التي أمكنها الوصول إلى البرلمان لا تملك خطة عمل، ولا إرادة سياسية لإيلاء الشأن الاقتصادي والاجتماعي الاهتمام الذي يستحق باعتباره المحك للنجاعة الإدارية والسياسية. وأن الصراعات بين اليمين واليسار وبين العلمانيين والإسلاميين ظلت تدور حول التنافس على السلطة، وهو تنافس مشروع على كل حال، لكنه يفتقد إلى مضمون اجتماعي يقترب من الحاجات الفعلية لشرائح واسعة من الجمهور في الداخل التونسي، بعيداً عن العاصمة.
في هذه الغضون يتغلب الهاجس الأمني لدى السلطات على ما عداه خشية أن تخرج الاحتجاجات عن نطاقها الطبيعي السلمي، أو أن يتسلل إليها ذوو أجندات سياسية خاصة بهم، وذلك أمر منطقي، كردة فعل أولى ومباشرة على هذه التطورات غير المسبوقة منذ خمس سنوات، غير أن الأهم من ذلك هو أن تبادر الحكومة لوضع خطط عاجلة ومتوسطة وآجلة بمشاركة المجتمع المدني والقطاع الخاص والاتحاد التونسي للشغل والأحزاب والبلديات، فما حدث منذ أسبوعين لا يعدو أن يكون دق ناقوس الخطر، ومحاولة من المهمشين للاحتفال على طريقتهم بالذكرى الخامسة لانتصار ثورة الحرية والكرامة، لكن من دون أن تتحقق الأهداف الاجتماعية والاقتصادية لهذه الثورة بالقضاء على البطالة والفقر، ورفع مستوى حياة الشرائح المهمشة، ومنح آمال حقيقية للأجيال الشابة، علماً بأنه قد ارتفعت في هذه الأثناء أصوات تدعو لإجراء انتخابات مبكرة، ستكون إن جرت، الثالثة في غضون أقل من ست سنوات.
ويخشى أن تؤدي الانتخابات إلى ترحيل للأزمة وتأجيل مواجهتها، وأن تمثل فرصة للتنفيس العلني المنظم بدلاً من احتجاجات الشارع، وإلى عقد مناظرات حزبية وسياسية لا تنتهي، لكن دون أن ينطوي ذلك على حلول فعلية للأزمة الاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي قد يؤدي إلى تغيير في الوجوه وفي اللاعبين على المسرح السياسي، لكن مع إرجاء الانفجار الاجتماعي، ومن دون إبطال مسبباته.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"