لماذا تتقطع أسئلتنا وتتكرر؟

02:33 صباحا
قراءة 4 دقائق

في حوار الدوحة، الذي عقد قبل عدة أيام، تساءل مفكرون عرب: لماذا نكرر أسئلة الماضي، ونعيد إنتاج الأسئلة نفسها، التي أثارها أجدادنا قبل قرن ونيف؟

لماذا ما زلنا نردد سؤال التقدم والتأخر؟ وهو السؤال الذي ردده العرب في الحقبة الاستعمارية: لماذا تقدموا؟ ولماذا تخلفنا؟ ولماذا سؤال الاستبداد ما زال مرفوعاً من أيام الكواكبي حتى الآن؟ وكذلك أسئلة الحرية والأمية والمرأة والتعددية والحقوق .

لماذا تضطرب الأحكام بين الأمس واليوم، ويزداد الغبش وتلتبس المفاهيم، عند الحديث عن الأصالة المعاصرة؟ ونظل نلف وندور حولها طوال أكثر من قرن ونصف القرن؟

رغم وجود متغيرات ضخمة في حياتنا، جرت خلال هذه العقود الطويلة الماضية، إن على مستوى الحقول المعرفية، أو على مستوى المنظومات الفكرية والمادية، فإن الأسئلة الأساسية التي أثيرت في الماضي، ظلّت هي الأسئلة نفسها، ولم تأخذ حتى دلالات جديدة أو معاني متجددة، كلياً أو جزئياً .

ماذا يعني إذن، أن تظل مساءلتنا للواقع العربي تتكرر عبر الأجيال، قد تقطع حيناً، وقد تعلق لزمن قصير، وفي كل هذه الحالات ظلت الإجابات والتشخيصات سريعة، وأحياناً ملفقة، وغالباً استرضائية .

* في السنوات الأخيرة، مثلاً، تحدثنا عن الإصلاح والتغيير، ثم انقطعت الأسئلة، وبدا للبعض أن سؤال الإصلاح، كان مجرد فخ لمصادرة تحولات عضوية حقيقية في مجتمعاتنا .

لكن في واقع الحال، كانت صياغة هذا السؤال تحتمل الكثير من التصنع، فكانت الأجوبة بلا مفعول، لأنها تحاشت تسمية الأشياء بأسمائها، وبالغت في إحالة كل ما في حياتنا من عفونة، إلى مشجب المؤامرة، فحرمنا من اكتشاف مواطن الخلل في ذواتنا ومجتمعاتنا . ما يعني أن سؤال الإصلاح، وأشواق التغيير والنهوض، ستعاود الطرح على عقول ووجدان أجيال قادمة، ومن خلال سياقات جديدة وشروط قيمية مختلفة .

هل هذه الإجابة كافية لتفسير أحجية تقطع الأسئلة وتكرارها ما بين الأمس واليوم؟ ربما . لكن بعض الأسئلة المكرورة، يبدو عليها كأن المقصود بها هو الاكتفاء بطرحها، كأسئلة الجدوى من المقاومة مثلاً، فهي طرحت في العقد الثالث من القرن العشرين، مثلما طرحت في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كذلك طرحت وتطرح أسئلة الدولة والمجتمع والدين وغيرها الكثير .

* من ناحية أخرى، يعيش العرب محاولات متكررة للنهوض منذ ما يقارب القرن ونصف قرن، وما زلنا نثير أسئلة النهوض، من دون أن نساءل النمط الثقافي السائد، ومن غير ذهنية مواتية، ومن دون سعي حقيقي عملي لتوفير إجماع قومي حول هذه المسألة . وتجاهلنا أهمية توطين العلم الحديث في مجتمعاتنا في تعليمنا . ومما لا شك فيه، أن وعينا السياسي والمجتمعي، غالباً ما كان يتجلى في مشاريع انبعاث خارج السياق كله، وليس في مشاريع تقدم مستدام . وظلت التعليلات على حالها، والمساجلات المتشابهات مستمرة حول الأصالة والمعاصرة . وفي غياب ثقافة القراءة المتواصلة المتجددة للمحتوى المعرفي والمضمون الفكري الذي يتغير .

وفي هذا الإطار نستحضر ما كتبه أرسطو في رسائله حول المنطق في القرن الرابع قبل الميلاد، وبعد أكثر من عشرين قرناً، جاء فرانسيس بيكون ليدحض دعواه، وهكذا فعل ابن رشد بعد قرن كامل، وردّ على كتاب الغزالي تهافت الفلاسفة .

المهم، أن الإشكاليات المعقدة، لا تتقيد بزمان، بل إنها تظل مفتوحة عبر الحقب والمراحل، من خلال القراءة النقدية لما سبق، ومن أجل الاستكمال والتجاوز نحو الأفضل والأصلح للإنسان . لكن من المؤكد أن جذر التقدم لا يؤسس على تقطع الأسئلة الجوهرية، ولا على الإجابات المعلقة، وتلك عديمة الفاعلية والأثر، أو التي يتم استحضارها من الخارج أو من الماضي، استرضاء أو تقليداً، وإنما يكمن في المبادرة الذاتي وبالقدرة على التكيف، وباسترداد المنهج العقلي في التفكير، واستعادة الإيمان بالحرية، وامتلاك الهمة، وفض الاشتباك في داخل مجتمعاتنا، وتنقيته من النفاق والاستفزاز .

* لقد استمرت أسئلة التعليم الابتدائي في بريطانيا نحو ثلاثة قرون بدءاً من منتصف القرن السادس عشر، حتى استقرت ونهضت من خلال مبادرات أهلية في القرى والبلديات، في حين نجحت ثورة المايجي الإصلاحية في اليابان خلال عقد ونصف العقد فقط في تحقيق تغيير ذاتي وإصلاحات جذرية، فاق في شموليته ما حققته الثورة الفرنسية في آخر القرن الثامن عشر .

* ما يستحقه شعبنا العربي، وأجياله القادمة، أكثر بأضعاف من هذا الاستحضار الرتيب لأسئلة قرن مضى، وتأقلم رجال الحكم والفكر مع المكرور من أسئلة الحرية والتعليم والتقدم والحكم الرشيد والمرأة والديمقراطية . . الخ .

* قد يرى البعض أن حالة الإرهاق السياسي والزهايمر الثقافي، التي نعيشها، بسبب تعاقب الكوارث، وتنامي التخلف، وهدر الممكنات، هي التي أدت إلى هذه اللامبالاة في طرح التساؤلات، والاستجابة غير الفاعلة لها، لكن من المرجح أن الإجابة الفاعلة هي من نصيب من تكون البوصلة بين أصابعه، ويملك وعياً تاريخياً وروحاً وثابة .

* المهم، أن تنأى سجالاتنا في الراهن عن عدد الملائكة أو الشياطين على رأس دبوس عربي، وأن تحلق أسئلتنا الجوهرية عالياً خارج جاذبية فقه إرضاع الكبار وفقدان الرشد .

إن ما يمنع كيمياء النهضة من اكتمال التفاعل بين عناصرها، هو تحالف الطغاة والغلاة والاحتلال، مع حذف المستقبل في فكرنا، وإجهاض أية إجابات باتجاهه .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"