الجين الثقافي

04:12 صباحا
قراءة دقيقتين
صفية الشحي

تؤمن المؤسسات الاقتصادية الكبرى التي تستحوذ على كبريات العلامات التجارية في العالم بقيمة الجين الثقافي ضمن تركيبة هيكلها الداخلي الذي يحدد مدى صلابة المنظومة وقدرتها على المنافسة والاستمرار، فقيم مثل التعددية واحترام البيئة والتنوع هي جزء لا يتجزأ من كيان أي منتج عالمي يتم تقديمه للجمهور، بحيث تعتمد هذه الشركات في حملاتها التسويقية على الفكرة الثقافية الكامنة في دورة حياة المنتج ذاته، وهذا بالضبط ما يجعلنا كمستهلكين متعلقين بالأفكار والشخصيات والقصص التي تحملها عشرات السلع للقيمة المعنوية التي تمثلها أكثر من دورها في إرضاء نزعتنا الاستهلاكية.
في المقابل ما هو «الجين» الذي تعتمد عليه مؤسسة ثقافية ما؟ والسؤال هنا ليس عن أهدافها ورؤيتها الشاملة، ولكن عن ماء حياتها في الأصل، فما هو سبب وجودها في المجتمع، ولماذا يعتقد القائمون عليها بأنها ضرورة لا يمكن لحياة الفرد أن تستقيم بدونها؟ هناك حاجة كبيرة لطرح مثل هذه التساؤلات حتى نتمكن من تفسير هذه القطيعة بين الثقافة والتسويق للخدمة والمنتج الثقافي عموماً.
لا يزال كثر ينظرون للثقافة من منظور تقليدي متناسين التحديات الكثيرة التي جعلت من الصعب الدفع بأنموذج ثقافي محدد إلى الساحة على اعتباره المعبر الأوحد عن مجتمع ما، وخصوصاً في ظل تطورات ساهمت في تفكك الكثير من الأنظمة الاجتماعية متجاوزة بذلك النمطية السائدة لعقود طويلة، إلى زمن الوعي المتشابك حيث لا حتمية ولا كلاسيكية، بل قفزات لم تراع الزمن و لا الحدود، أحدثت تغييراً في حضور الفرد كطاقة خلاقة وقادرة على الإبداع والتجدد، وصاحب إمكانية للفعل والتأثير من خلال قنوات لا رسمية، بل تواصلية واجتماعية بالدرجة الأولى.
في زمن «الفرد» أصبح من الضروري أن تخاطب المؤسسة الثقافية الجمهور من منظور المشروع لا المبادرة، وأن تنطلق من أساسيات لا تغفل الدور الإعلامي والحس الترويجي، ما يحتم عليها النظر للكتاب والأغنية والمسرحية والفيلم كمنتجات لها دورة حياة واضحة، وجمهور ذو خصائص متباينة، كما يفرض عليها خيارات محددة للنشر والتوزيع بما يتناسب مع السياق الاجتماعي والثقافي والديموغرافي الذي تنطلق منه، وأخيراً يطلب منها هذا الزمن التفكير بطريقة مستدامة، قادرة على معالجة المحتوى بأكثر من صورة وشكل وقالب، لأن الفرد متغير بطبيعته وهو يطلب منا أن نتحرى «انتباهه» في الوقت الذي تطبق عليه الكثير من الأطراف رغبة في الإفلات به.
إن الجين الثقافي هو العنصر المستدام في عمر المؤسسة الثقافية، وهو حجر الزاوية الذي تقوم عليه كل الأسس الأخرى، وقد أثبتت مؤسسات معنية بالكتاب والمعرفة - فيما ندر- أن لقاء بين السوق والقيمة يمكن أن يسفر عن نتائج غير مسبوقة لها تأثيرها العظيم في المجتمعات، شريطة أن يكون وراء القافلة وأمامها، قادة محبون للفعل الثقافي، متفهمون للتغيير، وقادرون على استشراف التحديات وما يقابلها من فرص.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"