المشترك الثقافي

03:15 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

من يتأمل العلاقات العربية العربية على كل مستوياتها يلاحظ أن مساحة الإجماع في القضايا الكبرى قد بدأت تتراجع بسبب تضارب المصالح القطرية أحياناً، والتدخلات الأجنبية أحياناً أخرى، إلى جانب الضغوط الخارجية. كما أن المتأمل سيكتشف أيضاً أن العلاقات البينية اقتصادياً وتجارياً لا تعبر عن روح عربية حقيقية، إذ إنها أبعد ما تكون عن التكامل، بل وأحياناً أقرب ما تكون إلى التنافس، ويظل المشهد مستمراً على الساحة العربية، ولا نرى بريق الضوء إلا من خلال الإشعاع الذي ينطلق من المشترك الثقافي الواحد الذي يجمع بين العرب، فالنكتة المصرية يضحك لها العراقي والمغربي، والأغنية اللبنانية يطرب لها السعودي والجزائري، وقس على ذلك ما تشاء. فالمشترك الثقافي هو نقطة الالتقاء العربية على المستوى الشعبي، بل والرسمي أحياناً. وما زلت أتذكر لقاءً رسمياً مع الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة، حيث كنت مرافقاً لعمرو موسى وزير الخارجية المصري في زيارة للجزائر، فإذا بالرئيس بوتفليقة يستهل اللقاء بحديث طويل عن مسلسل (أم كلثوم)، الذي كان يذيعه التلفزيون المصري، ويبدو الرئيس الجزائري السابق شديد الاهتمام بالمغنية العربية الراحلة، ودورها في تجميع الكلمة، وصنع ذوق عام يجمع العرب، ويوحد شعورهم في أوقات معينة.
وفي ظني شخصياً أن العامل الثقافي هو الفيصل، ولقد كنت في مناظرة تلفزيونية مع زميل لي في البرلمان المصري عام 2009، وكان هو ممثلاً لجماعة الإخوان المسلمين، وأصبح رئيساً للجمهورية بعد ذلك بسنوات قليلة، ولقد وجهت له السؤال أثناء المناظرة: لو أنك جلست على مقعد في مقهى بلندن أو باريس، والتقيت مسلماً إندونيسياً ومسيحياً عربياً، فمع من تجلس وتتحاور وتجد ذاتك الحقيقية؟ فراوغ في الإجابة، وقال: إن ذلك يتوقف على الظروف، فقلت له: إن المشترك الثقافي أكثر تأثيراً من المشترك الديني بين الشعوب؛ فالثقافة علاقة إنسانية بين الفرد والآخر، بينما الدين علاقة روحية بين الفرد وخالقه، واختلفنا يومها، بل وأتذكر أنه احتج على أن وزير المالية في مصر حينذاك مسيحي، ويجب أن تكون وزارات الدفاع والخارجية والداخلية والمالية في أيدٍ مسلمة! هكذا كان يفكر، وتلك كانت رؤيته، وما أريد أن أذهب إليه في هذا المقام هو أن أؤكد أن المفهوم العصري للقومية يستند بالدرجة الأولى إلى العامل الثقافي وجوهره الأصيل واللغة الواحدة، ويدفعنا ذلك إلى بعض الأفكار المرتبطة بالموضوع وهي:
* أولاً: لقد عكفت شخصياً في مطلع تسعينات القرن الماضي على إصدار كتابي (تجديد الفكر القومي)، ذلك أنني أيقنت أن نظرية القومية قد تغيرت، وأنها لم تعد ذلك التعصب الشوفيني لعرق أو جماعة، كما أنها لم تعد مرتبطة بالانتماء الديني، ولا تخضع أيضاً للتوظيف الطائفي، إنما هي شعور مشترك بثقافة واحدة ينتمي إليها كل من يرتبط بها، وذكرت في كتابي يومها أن العربي هو كل من تكون العربية لغته الأولى، وركزت على العامل الثقافي كعمود مركزي لمفهوم القومية، وقد لقي ذلك الطرح تجاوباً وقبولاً لدى كثير من شراح الفكر القومي ونظريته التقليدية، وها أنا اليوم ألح على ما كتبت عنه منذ ثلاثين عاماً لكي أقول: إن المشترك الثقافي هو الفيصل في تحديد الهوية وتوصيف القومية، ويكفي أن نتذكر أنه ليس كل العرب مسلمين، وإن كانوا هم الأغلبية، وأنه ليس كل المسلمين عرباً، وإن كانوا هم الأقلية، فأنا أدعو إلى فك الاشتباك بين المشروع الديني والمشروع القومي، فالطرح العروبي يلتقي مع الطرح الإسلامي في بعض النقاط، ولكنه لا يتطابق معه.
* ثانياً: إن المكون الثقافي لدى الفرد هو هويته، وهو الذي يحدد مسيرته ويعلن عن ذاته، ويكفي أن نتأمل حولنا تأثير اختلاف الثقافات على حياة الأمم ونهضة الشعوب، فالثقافة هي السلوك الإنساني وهي لغة اللسان الأولى، وهي أيضاً حشد من الفنون والآداب والمعارف التي تأصلت لدى كل قومية.
* ثالثاً: إن الذين يكتبون في العلاقات الدولية المعاصرة يؤكدون أن العامل الثقافي يتصدر المقدمة، وأنه يلعب دوراً حاكماً في توجيه القوميات وتحديد الهويات، إنه بالتأكيد ذلك الذي يسهم في تحديد شخصية الدولة وتعظيم مكانتها.
* رابعاً: إن العروبة تقف في مقدمة من ينتمون إليها ولا تتأثر بالخلافات المذهبية أو الدينية، ولعلنا نتذكر أن الشيعة العرب في العراق حاربوا ضد إيران تحت رايات صدام من منطلق قومي يعتمد على الثقافة بالدرجة الأولى، بل إن الخلاف بين العرب وإيران هو خلاف تقليدي بين الفرس والعرب، وليس خلافاً بين الشيعة والسنة كما يحاول بعض الدخلاء على المنطقة تصويره، ونحن لا نرى مبرراً لإشعال الفتن الطائفية في ظل بعض الرؤى المتعصبة أو الأفكار قليلة النظر محدودة البصيرة.
* خامساً: إن الثقافة تجمع ولا تفرق، لأنها تستند إلى طرح أخلاقي وتنطلق من دافع شعبوي يؤمن بالثقافة هوية وشخصية وسلوكاً وفكراً، فالعامل الثقافي دائماً يؤدي إلى حالة من الارتياح، ويجعل كل الأطراف المرتبطة به في حالة قبول طوعي ورضا شامل، فالآداب والفنون توحد البشر وتلقنهم معاني فاضلة تتغلب على كل أنواع الفرقة والاختلاف، وتضرب العنف والإرهاب.
هذه ملاحظات رأينا أنها واجبة الاهتمام في هذه المرحلة من مسيرتنا بعيداً عن التطرف والتعصب والعنصرية.. إننا جميعاً قوميات وأمماً وشعوباً نمضي في قارب واحد، وكلما أقمنا جسوراً بين الثقافات، بنينا روافد أكثر للحضارات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"