كلمة حق للأجيال القادمة

05:04 صباحا
قراءة 6 دقائق

استهلكتنا في السنوات الأخيرة حالة مرضية من جلد الذات المستمر ولا بأس أبداً من النقد الذاتي وفتح الملفات وكشف الحقائق والالتزام بالصدق والشفافية والموضوعية، ولكن حين يتحول الأمر إلى تركيز مطلق على الخطايا والسلبيات مع التجاهل التام للإنجازات والإيجابيات، فإننا نكون أمام حالة إحباط عام تضر ولا تنفع، وتسحق المستقبل قبل الوصول إليه، ولقد أصابت الجيل الجديد شظايا من ذلك الشعور العام الذي يزرع اليأس ويحصد المرارة، فأصبحنا أمام أوصياء يتحدثون عن الأجيال الجديدة بكثير من الاستخفاف والإجحاف وتصوير تلك الأجيال القادمة بأنها نبت سطحي لا جذور له يتسم باللامبالاة ويتصف بضعف الانتماء والتحليق في الأوهام مع نقص الاهتمام بالقضايا الوطنية والحياة العامة، حتى أصبحت الصورة الساخرة المألوفة أن نرى الأب يقول لابنه، أو الأم تخاطب ابنتها بحديث ممل عن أمجاد الأجيال السابقة، حيث يشدهم الحنين إلى الماضي في مواجهة أنماط الحياة الحديثة، فيبالغون فيما حققوا عبر تاريخهم الشخصي، ويشيرون إلى نجاحهم الزائف وتفوقهم المصطنع وهم يتناسون هنا عامدين أو غافلين أن تفوق جيل معين ينسب إلى الجيل الذي سبقه لأن هناك جيلاً يبني وجيلاً يجني .

وما زلت أتذكر دائماً ما كتبه ابن المقفع منذ أكثر من ألف عام تحت عنوان فضل الأقدمين فقد تباكى الأديب العربي يومها على المروءة الراحلة والشهامة الضائعة والأخلاق الرفيعة التي توارت، والمكارم التي اختفت ثم صب جام غضبه على الأجيال الجديدة في عصره، وكيف أنها تمثل تدهوراً واضحاً في القيم والمثل، وأنها تهدد بانهيار المجتمعات بل الأمم ذاتها، ولعلنا نتذكر الآن أنه مضى على ذلك الحديث أكثر من عشرة قرون وما زالت الدنيا تدفع بالكفاءات والشعوب تلد العبقريات والدنيا تمضي في طريقها المرسوم لذلك فإنني أعتقد أن تحاملنا على الأجيال الجديدة فيه ظلم واضح وافتراء مكشوف .

فمن خلال تجربتي الشخصية في التدريس الجامعي أو في عضوية لجان الاختبارات الشفهية للسلك الدبلوماسي أو الإرشاد السياحي أدركت أن الأمر يختلف عن ذلك، وأن لدى الأجيال الجديدة ما يستدعي الأمل ويدعو إلى التفاؤل، وليست الصورة قاتمة كما يصورها الأوصياء على الأجيال القادمة، ولعلي أبسّط ما أوجزته في هذه المقدمة من خلال الملاحظات التالية:

* أولاً: إنني أشعر أحياناً بغربةٍ حقيقية عن روح العصر ومفرداته وأدواته عندما أرى أبنائي وأحفادي يداعبون أجهزة الكمبيوتر واللاب توب في براعةٍ واستمتاعٍ وأنا أبدو مشاهداً فضولياً أسأل فيجيبون وأطلب المعلومة فيستخرجون، وأنا مثل الكثيرين من أبناء جيلي أبدو خارج دائرة العصر، ولن أنسى يوم ذهبت مع ابنتي الكبرى إلى مركز الوثائق البريطانية في لندن منذ سنواتٍ قليلة، وهو الذي كنت أرتاده في مطلع سبعينات القرن الماضي عندما كنت أعد لأطروحة الدكتوراه في جامعة لندن فوجدت في الزيارة الأخيرة أموراً مختلفة تماماً فقد أصبح كل شيء إلكترونياً وكل المعلومات مبرمجة، ولم تعد هناك فهارس مكتوبة ولا سجلات تصنيف لمئات الألوف من الوثائق، وتابعت ابنتي وهي تتعامل مع هذه المعطيات الحديثة ببراعة واقتدار، ولا شك في أن تلك ميزة كبرى تستأثر بها الأجيال الجديدة وتتميز بحيازتها والسيطرة عليها والقدرة على التعامل معها وتطويعها لخدمة عصر المعلوماتية .

* ثانياً: أزعم هنا أن القفزات الهائلة التي تحققت في العقود الخمسة الأخيرة أعطت الأجيال الجديدة ميزات بغير حدود، فقد عاصرت أنا شخصياً المذياع بالبطارية السائلة ثم بالبطارية الجافة ثم عصر الترانزستور الذي كان يبدو في وقته فتحاً مبيناً، ثم عصر التلفزيون الأبيض والأسود، ثم التلفزيون الملون، ثم عصر الفيديو، ثم الأطباق المستقبلة للفضائيات المختلفة بأعداد كبيرة وتنوعٍ بلا حدود، وفي كل يوم يتقدم العلم قفزات هائلة لا تكاد الصناعة الحديثة تكون قادرةً أحياناً على ملاحقتها، فكثير من الاكتشافات العلمية لم تتمكن من الدخول في مجال التطبيق التجاري لأن اكتشافاتٍ أحدث قد تجاوزتها عبر مسافة زمنية محدودة .

ثالثاً: عندما كنا صغاراً ونشاهد فيلماً أجنبياً لا نتوقف عن ترديد مشاهده اعتزازاً بمتابعتنا لصورة الحياة الغربية، أما الآن فقد دار الزمان دورته وانعدمت المسافة تقريباً بين المشاهد والمعلومات والآراء التي تصل إلى الطفل المصري ونظيره في أكثر الدول تقدماً من الناحيتين التكنولوجية والاقتصادية، وتلك ميزة كبرى تستأثر بها الأجيال الجديدة، فهي تسمح ولأول مرة في التاريخ بأن تكون معارف الشاب المصري مثيلة لنظيره الأمريكي أو الأوروبي أو الياباني . لقد أصبحنا نعيش في قريةٍ كونية واحدة لا يستأثر فيها طرف بالمعرفة من دون سواه، وفي ظني أن ديمقراطية العلم والثقافة لا تقل أهمية عن ديمقراطية الحكم والسياسة .

* رابعاً: إن أجيالنا الجديدة أقدر على الدخول إلى شبكات المعلومات واقتحام معاقل المعرفة على نحو غير مسبوق، فلم يعد العلم حكراً، ولم تصبح المعلومات عصية على أجيال العصر الجديد، بل أصبحت كلها متاحة من دون حواجز طبقية تقريباً أمام شبابنا في عصر انتشرت فيه مقاهي الإنترنت ووصلت أجهزة الكمبيوتر إلى الحقول والمصانع والدواوين فضلاً عن المدارس والمنازل . وتلك ثورةٌ كبرى تشهدها الأجيال الجديدة وتستمتع بها على نحو لم تعرفه أجيالنا بل ربما لم تحلم به أيضاً .

* خامساً: قال لي العالم الدولي الكبير زميل دراستي أحمد زويل إن الادعاء بأن الإمكانات المادية معوقٌ أساسي للبحث العلمي قولٌ تجاوزته تطورات العلم الحديث، وأضاف ذلك العالم الذي قدم خدماتٍ جليلة للإنسانية قائلاً إن كثيراً من الاختراعات التي نسمع عنها تحدث في كراجات العمارات الأمريكية عندما يلتقي مجموعة من شباب العلماء يطورون جهازاً علمياً أو يقومون بحل معادلة رياضية تكون فتحاً مبيناً نحو اكتشافٍ جديد، لذلك فالأبواب مفتوحة والنوافذ مشرعة أمام أجيالنا نحو التقدم الحقيقي والخروج من دائرة التخلف واقتحام مجالاتٍ تكنولوجية جديدة لم تكن متاحةً أمام أجيالنا الراحلة أو تلك التي تتهيأ للانصراف .

* سادساً: إن عصر الكمبيوتر قد حسم إلى حدٍ كبير سيطرة اللغة الإنجليزية كلغةٍ أولى في عالمنا المعاصر، بل فتح أبواباً جديدة لإجادة اللغات الأجنبية عموماً . ولقد كان يقال من قبل إن من عيوب الشباب المصري في العقود الأخيرة ضعف الإلمام باللغات الأجنبية، وتلك حقيقة ورثناها عن نظامٍ تعليمي متدهور كان يسمح بالانتقال إلى الفرقة الدراسية الأعلى مع الرسوب في مادتين كانت اللغة الإنجليزية أو الفرنسية إحداهما في الغالب . ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تصور البعض أن الوطنية الزائدة لا تتحمس لدراسة اللغات الأجنبية ونسينا أو تناسينا أن اللغات هي مفاتيح المعرفة وأدواتها الباقية .

* سابعاً: تستأثر الأجيال الجديدة أيضاً بميزة أخرى، فإذا كنا قد تحدثنا في عصور ماضية عن نظرية وحدة المعرفة فإننا نتحدث الآن عما يطلق عليه البعض المشترك الثقافي، حيث أسهمت العولمة في سقوط الحواجز وزوال الحدود بين الأمم والشعوب في ما يتصل بالأفكار والآراء والمعلومات وهو ما فتح بوابة العصر واسعة أمام وحدة ثقافية عالمية صنعت حداً أدنى للثقافة القومية بحيث ترتبط مباشرة بعصر المعلوماتية والعالم الجديد وثقافته المشتركة، فالكل يشاهد مشاهد واحدة ويتلقى معلومات من مصادر متقاربة ويفكر بأسلوب معاصر تبدو فيه الاختلافات طفيفة بين المجتمعات والشعوب .

* ثامناً: أظن أن الأغلب الأعم من الأجيال الجديدة رغم انصرافهم عن القضايا الوطنية والشأن العام أكثر جدية في العمل خصوصاً في ظل نظام اقتصادي تظهر فيه حوافز المشروع الخاص ويسمح بالمنافسة، ولا يضع قيوداً على النشاط الفردي أو المبادرة الذاتية، بل يفتح الأبواب واسعة أمام أسباب التفوق والتميز والدأب على العمل، ولا يصادر الطموح ولا يعادي النجاح، وذلك مع تسليمنا بحدة المنافسة وشراسة السوق وتزاحم الكفاءات ووجود جيوبٍ للفساد تضرب الكفاءات أحياناً وتطيح بالخبرات أحياناً أخرى .

أريد أن أقول من كل ما ذكرت إن الأجيال الجديدة حققت عدداً من المزايا المعاصرة ولكنها تدفع في الوقت ذاته ثمناً غالياً من جهدها دائماً، بل وشقائها أحياناً، لذلك فإنني أطالب الأجيال السابقة برفع الوصاية عن الأجيال اللاحقة والكف عن انتقادها بمناسبة وبغير مناسبة، وليتذكر الجميع أن لكل أوانٍ معطياته ولكل عصرٍ رموزه، كما أن دورة الزمن لا تتوقف، وما مضى لا يعود والخلود لله وحده .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"