يثير فتح ملف تسميم عرفات الأشجان، كما يثير التأمل في هذه الظروف التي يتراجع فيها وضع القضية الفلسطينية، ويتحرر فيها المحتلون من الضغوط عليهم . وابتداء فإن أهمية الأسرار الجنائية المتعلقة باغتيال ياسر عرفات، التي ألقيت مؤخراً أضواء جديدة عليها، أنها تحمل جوانب سياسية . فالتقنية العالية غير المستخدمة سابقاً لتسميم ملابس الرجل، تؤشر بوضوح إلى طرف يستثمر البحث العلمي وسيلة لارتكاب جرائم متطورة يصعب كشفها في وقت مبكر . وهذا الطرف هو من أقدم على محاولة اغتيال خالد مشعل في عمّان العام ،1997 وهو ما تأكد في حينه، هذا الطرف هو الدولة الصهيونية التي استبقت اقتراف جريمة استهداف عرفات، بِشَنّ عمليات قصف، وإحكام الحصار على مقر الراحل في رام الله . من المهم في ضوء هذا متابعة المسألة، ذلك أن استمرار التقصي عن جريمة ما، هو آخر ما يتمناه المجرم .
وقد أحسنت تونس فعلاً بطلبها من الجامعة العربية عقد اجتماع لبحث المسألة مجدداً، كونها مسألة عربية تتعلق بزعيم عربي . المأمول والمطلوب عقد اجتماع مخصص لهذا الأمر، وصولاً إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية، خاصة في وقت لا تتعرض فيه تل أبيب إلى ضغوط تُذكر، وذلك مع استطالة الأزمة السورية واستفحالها . ونستذكر هنا أن أرييل شارون رئيس وزراء إسرائيل في العام 2004 رفض عودة عرفات من أي رحلة علاج في الخارج إلى وطنه، لكنه لم يلبث أن وافق على عودته، حين وقع في يقينه بعدما تم تدبير مؤامرة تسميم متعلقاته الشخصية، أن الرجل لن يعود حياً . وهو ما حدث .
إن لنا في سلوك الصهاينة أنفسهم عبرة كبيرة، فهم يتقصون من يستهدفهم ويتابعونهم، من دون أخذ التقادم الزمني في الحسبان، وقد تم الانتقام من مئات الناشطين والرموز بتهمة مقاومة الاحتلال، بينما يقوم السلوك الفلسطيني، والعربي عموماً على الانشغال بآخر جريمة ونسيان سابقاتها، بانتظار أن تذهب الجريمة الجديدة إلى النسيان بعد اقتراف أخرى . .
إثارة القضية مجدداً تحمل أهمية خاصة في بعدها الفلسطيني، فمن حق الشعب الذي عبّر الراحل عن تطلعاته السياسية العميقة وأسهم إسهاماً حاسماً في بلورة هويته الوطنية وحمايتها من التبديد، أن يعرف الأداة الفلسطينية التي تم استخدامها في أداء هذه المهمة القذرة، بالوصول إلى المتعلقات الشخصية للرجل . وحُكماً فإن هذه الأداة هي من الدائرة الضيقة الأمنية واللوجستية والإدارية والسياسية، ذلك أن أياً من الصهاينة لم يتسلل حينذاك إلى المربع الضيق اللصيق بالراحل، لكنه كان من المعلوم أن العدو يدبر مكروهاً للراحل، بما يملي آنذاك يقظة كاملة واستنفاراً أمنياً . من مصلحة السلطة المضي قدماً في التحقيقات من أجل تحصينها من الداخل، وكشف الاختراق الجسيم الذي وقع، وفي سبيل استلهام روح الرجل في توحيد الشعب، والجمع بين مقاومة الاحتلال والكفاح السياسي، وذلك في ظرف مازال فيه الانقسام مزدهراً ومتفشياً، والمصالح الفئوية لهذا الفريق أو ذاك تطغى على مقتضيات التوحد .
وبعدئذ، فإن المواظبة على وضع العدو في دائرة الاتهام والمساءلة، أمر بالغ الأهمية والحيوية، وتشكل حلقة ثابتة في سلسلة المواجهة المفتوحة مع آخر احتلال في العالم . وكشف جريمة استهداف عرفات نموذج ممتاز لهذه المواجهة، فالرجل زعيم منتخب من قبل شعبه، وكان يقود سلطة أياً كان الرأي فيها تحظى بأوسع اعتراف دولي، وحتى من تل أبيب نفسها، وقد تعرّض مقرّه للقصف والحصار لأشهر، ولم يكتف المحتلون بذلك بل عمدوا كما تدل القرائن إلى تسميمه، بعد أن وقّعوا معه على اتفاقية أوسلو ونقضوها . وفوق ذلك تشكل هذه الجريمة نموذجاً صارخاً على السعار الصهيوني في قمع التطلعات المشروعة لشعبٍ سبق أن اقتلع من دياره العام ،1948 وها هو الاحتلال البغيض منذ العام 1967 يجهد في مصادرة ما تبقى له من وطنه، تحت ستار كثيف من التضليل المنهجي والتلاعب بالوقائع والعقول، والتنكيل الجماعي، وتقويض معالم الأرض المحتلة بالاستيطان وبالذات في القدس، وتحويلها إلى سجن كبير لثلاثة ملايين فلسطيني .
وهنا لا يجد المرء نفسه متفقاً مع الآراء التي تذهب إلى التشكيك بدواعي الاهتمام بالمسألة الآن، أو إسباغ تأويلات تآمرية على هذا الاهتمام المتجدد . حري بالطرف الآخر أن يسوق مثل هذه الأقاويل، للتغطية على جريمته وصرف الأنظار عنها . إن مهمة الإعلام هي البحث والتقصي عن الحقيقة، وجمع القرائن والأدلة وفحصها، وكذلك جمع ما تناثر من خيوطها ونشرها على الملأ، وهي مهمة شبيهة في بعض جوانبها بمهمة المحققين، مع فارق جوهري هو أن السلطة الرابعة ذات نفوذ معنوي: سياسي وثقافي، وليست سلطة تنفيذية أو قضائية .
في ضوء ما تقدم على الأطراف المعنية متابعة هذه المسألة بلا كلل، وسوف نلاحظ كيف ستبذل تل أبيب مدعومة، من واشنطن، كل ما تملك يمينها لإطفاء الاهتمام بها، وعلى الأقل التقليل من شأنها، وهذا هو دأب المجرمين في استكمال جرائمهم بأدوات أخرى منها الصمت والتعتيم .
