اختلافات ثقافية في وطن واحد

02:49 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

إن التعددية نعمة وليست نقمة، وأنا لا أقصدها بعبارة الاختلافات الثقافية ولكنني أقصد التفاوت النوعي في الثقافة الذي يؤدي إلى سلوك مختلف، ونحن في مصر نواجه هذه المعضلة لأسباب تتصل بالتعليم قبل غيره، ويكفي أن نتأمل أنماط الاختلافات التعليمية في مصر لندرك حجم المشكلة بوضوح. فلدينا تعليم ديني ومدني وتعليم أجنبي ووطني وتعليم عام وخاص، فإذا كنا نؤمن بأن التعليم هو الذي يحافظ على وحدة الأمة وانصهار قطاعاتها المختلفة وفصائلها المتعددة وطبقاتها المتنوعة فإننا يجب أن نعترف أن نظام التعليم في العقود الأخيرة قد أدى إلى حالة إرباك واضحة على سطح المجتمع.
وأنا أرى أحياناً المسافة الواسعة بين نمطين من الثقافة قد يكون أحدهما ديني إسلامي والثاني غربي أوروبي، وهذا البون الشاسع بين أنماط التعليم المختلفة قد أدى إلى صدام حقيقي بين من يسعون إلى الاستنارة على أرضية وطنية وبين من يطلبون التحديث باستيراد أجنبي. وفي الحالتين فإن المشكلة قائمة وكانت النتيجة أن حجم الضباب الكثيف يغلف المجموعات المختلفة، ولأن (المرء عدو ما يجهله) فإن هناك حالة من التربص بين مخرجات العملية التعليمية بمستوياتها المتعددة فلم يعد هناك من يحترم خيارات الآخر بل سادت روح الكراهية بين الشخصيات العامة نتيجة التفاوت في المدخلات التعليمية والثقافية والفكرية وأدى ذلك إلى حالة انقسام حقيقي في صفوف الأمة المصرية وغابت في كثير من الأحيان اللغة المشتركة لمن يقفون على أرضية واحدة نتيجة التباين في المنطلقات الفكرية والتعليمية. فبيننا من يؤمن بالخرافة ولا يحترم العلم وبيننا من يحاول استغلال الدين الحنيف لخدمة نظرته الضيقة وبيننا من ينظر دائماً خارج الحدود لأنه لا يملك الأصالة التي تربطه بأرضه وشعبه. ولقد كنا نقرأ دائماً أن الفيصل في انصهار عناصر الأمة ووحدة نسيجها هما عمودان لا ثالث لهما وهما الجندية والتعليم، فالكل سواسية أمام خدمة العَلم ولكنهم لم يصبحوا سواسية في إطار الاختلاف الشديد بين نوعيات التعليم ناهيك عن الآثار السلبية لوجود أكثر من ربع سكان مصر لا يقرأون ولا يكتبون.

لقد كانت المدارس العامة منذ عدة عقود مدعاة للفخر والاعتزاز فكان هناك من يقول إنه خريج مدارس (السعيدية) أو (النقراشي) أو (بنبا قادن) أو أسيوط الثانوية أو دمنهور الإعدادية وهذه مجرد أمثلة، والمدهش أن أبناء الطبقات القادرة من ذوي الإمكانيات الكبيرة كانوا يجلسون إلى جانب زملائهم القادمين من الطبقات الكادحة داخل الفصل الواحد بلا تفرقة أو تمييز، ويومها كنا نقول إن هناك تعليماً يخضع له الجميع ويقف تحت مظلته الكل بلا تصنيف طبقي أو تفضيل اجتماعي. فأنا أعرف أحد الأصدقاء من جيل سابق كان قادماً من الطبقة المتوسطة أو ما دونها وكان يجلس إلى جانبه ابن (ناظر الخاصة الملكية) في وقت لم يكن فيه التعليم الأجنبي بالشيوع الذي نراه الآن!
كما أن التعليم العام كان صامداً وصلباً ورائداً في المنطقة كلها، ولقد حكى لي صديقي الكاتب الصحفي الأستاذ محمد عبد المنعم أنه كان يجلس في المدرسة الابتدائية - وهي مدرسة عامة ومحترمة في وقتها- وكان المدرس يسأل بعض الطلاب عن وظائف آبائهم كنوع من الزلفى والتقرب وكان صديقي محتاراً في وظيفة والد زميله التي ذكرها للمدرس عندما سأله لقد قال الطفل: إن أبي هو (مقصدار جلالة الملك) وكان الأمر غير مفهوم للتلاميذ من زملائه بينما المقصود أن أباه هو الترزي الخاص لملك مصر.

إنني أحلم بتلك الأيام الخوالي التي كان فيها المصريون متساوين تعليمياً، متقاربين ثقافياً، رغم التفاوت الطبقي الذي لا ننكره واستئثار فئة قليلة بمقدرات الوطن، وأتذكر عندما ذهبت إلى العاصمة البريطانية دبلوماسياً ودارساً في ذات الوقت أن سلطات التعليم البريطاني كانت تعتبر الخريج المصري في مستوى زميله البريطاني في ذات التخصص وتكتفي فقط باجتيازه اختباراً في اللغة الإنجليزية، أما الخريج الهندي فكان معفياً من اختبار اللغة الإنجليزية ولكنه ملزم باجتياز امتحان معادلة في تخصصه حتى يتساوى في مستواه التعليمي مع زملائه البريطانيين والمصريين!

فأين تلك الأيام التي كان فيها التعليم المصري هو أداة الانصهار العقلي والفكري بين أبناء الوطن الواحد كما كان في ذات الوقت هو أغلى سلعة نصدرها لأشقائنا في المنطقتين العربية والإفريقية والعالم الإسلامي، بل إن التعليم الأزهري كان هو في حد ذاته منارة للمنطقة كلها فخرج منه رفاعة الطهطاوي وطه حسين والأخوان عبد الرازق فضلاً عن الإمام المجدد محمد عبده، كما قدم للقارتين الآسيوية والإفريقية زعامات معروفة فكان (عبد القيوم) رئيس جمهورية (المالديف) خريج الأزهر الشريف وكذلك كان أحد رؤساء جمهورية إندونسيا منذ عقدين كما أن الفارس العربي الإفريقي (هواري بومدين) رئيس الجزائر وأبرز أبطال استقلالها كان هو الآخر خريج الأزهر الشريف، ولماذا نذهب بعيداً فإذا كنا نقول إن الفن هو الحياة لأنه نقيض الإرهاب وهو الموت فلنتذكر الآن أسماء مثل الشيوخ سلامة حجازي وسيد درويش وزكريا أحمد وسيد مكاوي لندرك حجم الليبرالية الرائعة التي تمتع بها ذلك الحصن الإسلامي التليد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"