اختبار نوايا دقيق بين واشنطن وموسكو

03:02 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمود الريماوي

اعتبر الرئيس الأمريكي باراك أوباما اتفاق الهدنة المؤقتة في سوريا بمثابة اختبار لروسيا. القرار بالهدنة تم اعتماده من طرف موسكو وواشنطن في مباحثات مغلقة بين وزيري خارجية البلدين، واعتمده مجلس الأمن ليل الجمعة الماضية. في هذه الأثناء أطلق الرئيس الروسي بوتين تصريحات تعلن تمسك بلاده بالحل السياسي في سوريا، وكذلك بوقف إطلاق النار رغم صعوبته. في واقع الحال أن الهدنة قبل أن تكون بين النظام والمعارضة، فهي بين موسكو وحلفائها من جهة، ومجموعات الدعم الدولية والإقليمية لسوريا من جهة ثانية. ومن المؤسف أن تبدو الهدنة التي بدأ سريانها مع فجر السبت 27 فبراير بغير آمال كبيرة تحِفّ بها، باستثناء الأمل أن تكون الخروقات محدودة.
وبينما هدنة لأسبوعين تتطلب استثمارها من أجل تسهيل عمل المنظمات الإغاثية والإنسانية ووصول أفراد هذه المنظمات إلى المناطق المحاصرة وما أكثر هذه المناطق من درعا في الجنوب إلى دير الزور في الشرق إلى حلب شمالاً إلى قلب العاصمة دمشق وأطرافها وريفها، فإن الحديث في هذا الشأن كان ضئيلاً للغاية.. لو كان هناك حد أدنى من النوايا الحسنة لتم الإعلان من جميع الأطراف عن تسهيل تحركات لجان الإغاثة والاستعداد لاستقبال المزيد منها تحت يافطات دولية معتد بها كالأمم المتحدة أو الصليب الأحمر الدولي وسواهما.
خلافاً لذلك فإن أجواء الحذر الشديد واهتزاز الثقة هي السائدة. وتتخذ طابعاً سياسياً أكثر مما هي وقفاً لأعمال عدائية متبادلة. والمقصود بالطابع السياسي هو تنظيم العلاقة بين موسكو وأطراف إقليمية ودولية ترى أن الهدنة ستحقق نجاحاً ما، إذا التزمت موسكو من جهتها بوقف إطلاق النار. وذلك بعدما صدرت إشارات متناقضة تفيد بتقيد موسكو بالهدنة، وبمواصلة قتالها للجماعات الإرهابية رغم وقف إطلاق النار (وبدون حصر الأمر بقتال «داعش» والنصرة).. علماً بأن موسكو شأنها شأن واشنطن راعية للهدنة.
وعليه وبالنظر لهشاشة الوضع على الأرض من حيث إمكانية ثبات وقف إطلاق النار، ولافتقاد زخم سياسي يواكب هذا التطور، فإن الأمر لا يعدو أن يكون اختباراً متبادلاً للنوايا بين موسكو وحلفائها من جهة وواشنطن وحلفائها من جهة أخرى. واشنطن تريد من موسكو أن تكف عن استهداف المعارضة والمرافق المدنية، وموسكو تريد ضمانات بعدم دخول قوات برية لمكافحة «داعش».
ومع ذلك فإن التوصل إلى اتفاق الهدنة كان أفضل الخيارات المتاحة حتى تاريخه من أجل محاولة نزع الفتيل المتفجر للأزمة. فالأمر أشبه بتجربة أولى وب «بروفة» تستكشف فيها جميع الأطراف المعنية مزايا وقف إطلاق النار، والسماح للأهالي بالتقاط الأنفاس للمرة الأولى منذ نحو خمسة أعوام، ثم المزايا المرتجاة لتحويل وقف مؤقت لإطلاق النار إلى وقف دائم أو شبه دائم. علماً أن الحل السياسي في سوريا يبقى كلاماً في الهواء من دون الاستعداد الجدي لأطراف الأزمة لوقف إطلاق النار، ثم الالتزام به لدى سريانه.
لقد أدى خروج الأزمة عن نطاقها المحلي ثم الإقليمي إلى نطاق دولي، إلى أجواء من الاحتكاك المباشر بين قوى دولية عديدة على الأرض السورية. التصعيد بين أنقرة وموسكو يؤذن بالتهاب الوضع. تحذيرات مسؤولين روس من حرب عالمية ثالثة، لا سابق له. أما ما بدا كشهر عسل طويل بين موسكو وواشنطن وتبدى في التحضيرات لجنيف 3 وضغوط الوزير جون كيري على المعارضة السورية، فهو في سبيله للانتهاء فقد ذهبت موسكو بعيداً في انغماسها القتالي الذي أخذ طابعاً استعراضياً للقوة، ثم أخذت الحلول السياسية تفقد مرجعيتها الدولية شيئاً فشيئاً لمصلحة رؤى روسية، قبل أن تتم استدارة جديدة، تشدد على مرجعية جنيف 1 القاضية بتشكيل هيئة حكم انتقالي كمرجعية وحيدة، وترتفع حدة الشكوك المتبادلة ولدرجة وصلت إلى التجريح الشخصي بين البيت الأبيض والكرملين. وهو ما لا سابق له في العلاقة التي جمعت بين بوتين وأوباما. وقد اشتدت وتيرة هذا التوتر قبل أيام وحتى قبل ساعات من السريان المفترض للهدنة.
وعليه ليس من المبالغة القول إنه إذا تمكن الطرفان الدوليان الكبيران من رعاية الهدنة والسهر عليها من الانهيار، وإذا ما توفرت إرادة سياسية ثنائية تضع هذه التجربة على طريق النجاح، فإن الآفاق ستكون مفتوحة بعدئذ لمفاوضات حقيقية بين الحكومة والمعارضة وفقاً لبرنامج اتفق عليه الراعيان الروسي والأمريكي في جنيف 3. وبطبيعة الحال فإن راعي الهدنة لا يهددها ولا يخترقها ولا يقفز عليها . فالرعاة بمثابة جهة للرقابة وللتحكيم، ومن طبيعة الأشياء ومنطق الأمور أن ينأى الراعي بنفسه عن مباشرة أعمال عدائية في ظل الهدنة، كيما يتوفر على مصداقية موثوقة، وكي يسعه الحكم بأمانة ونزاهة على سلوك الآخرين.
وفي مطلق الأحوال فإن تجربة الهدنة مفيدة وتستحق التنويه الإيجابي بها، إذ تشكل كسراً هو الأول من نوعه للجمود السياسي، وتوقف ولو مؤقتاً الاحتكام إلى الحلول العسكرية، وتتيح الانتقال إلى خطوة لاحقة أكثر طموحاً، وسوف يعكس المسار الذي تتخذه الهدنة مدى صلابة أو هشاشة التفاهمات بين واشنطن وموسكو، ومدى استعداهما معاً لوقف أجواء الحرب الباردة المستعادة، ولنزع فتيل الأزمة بين أنقرة وحلف الناتو من جهة وموسكو من جهة ثانية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"