التربية على قيم التسامح

04:37 صباحا
قراءة 5 دقائق
أمام البوابة الرئيسية لديوان ولي عهد أبوظبي، ما يلفت انتباه العابرين، ويدعوهم للتوقف والتأمل . تسع منحونات فنية أبدعها فنان فرنسي من أصول جزائرية هو (Guy Ferrer)، في نهاية عام ،2008 وأمر صاحب الديوان، بحسه المرهف تجاه منظومة القيم المنشودة، "بزرع" هذه المنحونات البرونزية الفنية التسع، أمام الديوان، في رسالة إلى الناس .
تُجسِّد هذه المنحوتات مصطلح التسامح، بمعناه المعروف باللغة الإنجليزية TOLERANCE . وحروفها التسعة، تبدو كل منها تعبيراً رمزياً عن الحكمة والإيمان والسلام والتآخي، وتحمل خطاباً قوياً يعبر عن معنى القيم الإنسانية التي يحملها مفهوم التسامح، المرغوب في نشره وتعزيزه في مجتمع الإمارات، والمجتمعات العربية الأخرى .
ورغم كثرة تداول مصطلح التسامح، في الخطب والمؤتمرات والإعلام، فإن هذا المفهوم ما زال ملتبساً أو مشوشاً لدى الكثيرين، ويفسره البعض - خطأ - بمعنى: التكرم أو السخاء أو الجود أو التساهل، أو غض الطرف عن حماقات وضعف الآخر، وفي ذهن بعض المثقفين، من أمثال أدونيس، يحمل هذا المفهوم، خلطاً مشوشاً، ورفضاً لاستخدام هذا المصطلح، باعتبار أن المتسامح، هو وحده الواثق من صواب رأيه، وصحة عقيدته، وسمو ثقافته وأصله وفصله وهويته، حسب رأيهم . في حين أن المعنى المستقر الآن لمفهوم التسامح، هو الاعتراف المتبادل بالحق في الاختلاف، والتعامل بانفتاح مع قواعده وقيمه، من دون تهاون إزاء العدالة وحقوق الإنسان . والتسليم بالتنوع، تحت سقف الهوية الوطنية الجامعة، والاعتراف بالآخر المختلف عنَّا ديناً أو سياسة أو ثقافة أو لغة أو هوية . . إلخ .
نستحضر هنا كلام الإمام أبو حنيفة النعمان، حينما قال: "كلامنا هنا رأي، فمن كان عنده خير منه، فليأت به"، كما نستحضر قول الإمام الشافعي: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" .
وقد عرف تاريخنا العربي والإسلامي، نماذج معتبرة من تطبيق عملي لقيم التسامح، مثلما عرف أيضاً، نماذج مؤسفة من اللاتسامح، إلا أن مرجعياتنا العربية الإسلامية الأساسية، تتضمن جوهر معاني قيم التسامح والرحمة والصفح، وعدم الإكراه، واعتماد المشترك الإنساني، وحرية العقيدة، وتحمل الرأي الآخر، والتعايش مع الآخر المغاير، والقدرة على احتمال وقوع الخطأ والمجادلة بالتي هي أحسن، واحترام كرامة الإنسان، والعدل في المعاملة من دون تمييز مع المغايرين والمخالفين، والوفاء بالعهد لأهله، مهما اختلفت عقائدهم ولغاتهم وألوانهم، وقيم الرحمة تجاه "العالمين"، التي تعني قبول الآخر .
إن نقيض التسامح، هو التعصب والغلو والإقصاء ورفض الآخر، والعنف والاستبداد والتحريم والتكفير، وتقييد الفكر، ومصادرة الرأي، وغير ذلك من المعاني .
وهكذا، فإن قيم التسامح، هي قيم أخلاقية، بأبعاد فكرية وسياسية واجتماعية وثقافية .
وقد تبلور مفهوم التسامح، كفكرة في أذهان علماء وفلاسفة أوروبيين في القرن السادس عشر، بحثاً عن إمكانية التعايش بين الكاثوليك والبروتستانت، بعد حروب دامية وطويلة بينهم، وفي بدايات بلورة هذا المفهوم، تم استثناء اليهود والمسلمين من التسامح، وتم قمعهم، لكن مع مرور الوقت شكلت قوة الرأي العام سنداً لتعميم فكرة التسامح، وتطورت من مفهوم "متعال" إلى مفهوم ثقافي أرقى، يدعو إلى احترام التعدد والاختلاف، والتعايش بين الأديان والثقافات والبشر والهويات .
اليوم، تحمل معظم المجتمعات في العالم قدراً من اللاتسامح، لكن الفرق بين مجتمع وآخر، هو في مدى اعتبار التسامح قيمة سياسية وأخلاقية وثقافية وقانونية، ينبغي إقرارها والالتزام بها .
إن الحاضن الأساس لمفهوم التسامح، هو الدولة، ومن خلالها يتم التربية على التسامح، وشرعنة قيمه، ليصبح ثقافة مجتمعية سائدة، تنبذ التمييز والتطرف والعنف والإقصاء والكراهية .
وفي هذا الإطار، فإن الحاجة لإشاعة قيم التسامح، وبثها في فكر وسلوك وثقافة المواطن، ضرورة ملحة، وذلك من خلال توفير بيئة تعليمية وتربوية، وظروف موضوعية لتعميق مبادئ المواطنة المتساوية، واحترام الكرامة الإنسانية، وهي كرامة أسبق من كل انتماء أو هوية حضارية، وهي أيضاً حصانة أولية للإنسان، ثابتة له، بوصفه إنساناً كرَّمه خالقه، وجعله خليفة في الأرض . وأمده بقدرات وإمكانيات لإعمارها وإصلاحها .
إن التربية على التسامح، فضيلة تمنع التعدي على حقوق الآخرين، وحرياتهم، وتحول دون نشوب نزاعات عنيفة، وبالتسامح، يمكن مواجهة تنامي التعصب، والفتن الطوائفية والمذهبية، وهي فتن تهدد الأمن الوطني والقومي والإنساني على حد سواء .
وبالتسامح أيضاً يمكن مواجهة الغرور و"العنطزة" والاستعلاء، سواء كان على مستوى شخصي أو وطني أو ديني أو سياسي أو اجتماعي .
كم نحن بحاجة ماسة لجهود إضافية لتعليم الأطفال التسامح والانفتاح، وتعزيز الوعي الفردي، وإبداء التضامن مع ضحايا العنف والغلو والتكفير والانغلاق بدون تمييز .
كم نحن بحاجة ملحة، لإطلاع الأجيال الشابة على سائر الثقافات، وأساليب العيش والحياة فيها، بما يساعد هذه الأجيال على تطوير قدراتها في إصدار أحكام مستقلة معتدلة، ومعرفة الحقوق التي يتشاركون فيها مع غيرهم
إن المجتمع البشري بحاجة إلى تأصيل قيم التسامح، من منظور سياسي وإنساني وأخلاقي وثقافي، ومن خلال تعزيز المعرفة بالآخر، واحترامه، وحرية الضمير والفكر، إذ لا يمكن الخروج من دائرة وغلواء الغلو والتطرف والكراهية والعنف إلا بتعميم مفهوم التسامح، على أرضية أن الناس في الأصل مختلفون في قيمهم وقومياتهم ومذاهبهم ولغاتهم وأعراقهم وأوطانهم .
اليوم . . أصبح واضحاً مفهوم التسامح، ومحدداته القانونية في المواثيق الدولية، والتشريعات الداخلية، وفي الأدبيات السياسية، وقد آن الأوان، لترسيخ هذا المفهوم، في مناهجنا التربوية والتعليمية ووسائط إعلامنا الجديد والتقليدي، وإنشاء هيئات وطنية وإقليمية للتسامح، أسوة بجمعيات حقوق الإنسان، ومكملة لها، تعمل على تحقيق السلم المجتمعي، ومواجهة التعصب، وبناء اللحمة الوطنية وترسيخ مفاهيم المواطنة، وتعزيز العلاقات الصحية بين مختلف مكونات المجتمع .
ومن المؤكد، أن إشاعة وتعزيز مفهوم التسامح، ليس مجرد مسائل شعورية وعلاقات عامة، وشعارات، إنما يتجاوز ذلك إلى سياسات وممارسات وأفعال، تحول دون إفراغ طاقة التسامح في المجتمع، وإذا ما أُفرغت هذه الطاقة من المجتمع، فإنه يتحول إلى حالات متنوعة من الكراهية والاحتراب والقسوة المتبادلة بين أفراده، فضلاً عن الغير خارج الأوطان .
وعادة ما يبدأ هذا الاحتراب صامتاً، ثم ينمو ويتدرج يوماً بعد يوم، ساحباً معه، من رصيد تعايش أفراد المجتمع ولحمة المجتمع . . وأمامنا تجارب حية في ليبيا واليمن وسوريا ولبنان وغيرها .
ما بين المهرجان الثقافي وشعاره "لتعارفوا" في عاصمة الثقافة الإسلامية الشارقة، في هذه الأيام، وبين المنحوتات الفنية السبع المعبرة عن التسامح، أمام ديوان سمو ولي العهد، مروراً بهذا الحراك الثقافي في الداخل والخارج، نتأمل أبعاد هذه القيم النبيلة، ونتطلع إلى مشروع وطني ثقافي شامل للمستقبل .

د . يوسف الحسن

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"