القمة الثقافية العربية

04:48 صباحا
قراءة 4 دقائق
د . مصطفى الفقي

لن أتوقف عن الإصرار على التمسك بحق الثقافة العربية في أن تكون لها قمة كان من المقرر أن تنعقد منذ سنوات وقد كنت أول الداعين لها في اجتماع لمؤسسة الفكر العربي بمدينة بيروت في حضور الأمير خالد الفيصل رئيس المؤسسة حينذاك والسيد تمام سلام وزير الثقافة اللبناني في ذلك الوقت وقد جرى استقبال الاقتراح المصري بكثير من الحفاوة والاهتمام إلى أن تبنته القمة العربية ذاتها وبقرار منها، وبدأ جهاز الجامعة يبحث ترتيبات عقد تلك القمة ودعيت شخصياً للقاء مع الأمين الحالي د . نبيل العربي الذي عبر عن اهتمامه بالموضوع، ولكنه فضل أن يكتفي بأن تكون "قضية الثقافة" هي أحد البنود المطروحة على إحدى القمم العربية واختلفنا يومها في الرأي إلى أن سمعت الأمين العام ذاته يتحدث في مناسبة ثقافية بالجزائر ويعطي العامل الثقافي مكانته الطبيعية فاعتبرت أنه قد غير رأيه تجاه هذا الأمر خصوصاً وأن الأمين العام السابق عمرو موسى كان متحمساً لاقتراح "القمة الثقافية" وعقد اجتماع مائدة مستديرة مع عدد كبير من أقطاب الفكر ورموز الثقافة فى العالم العربي وسعدت بحضوره وما قيل فيه لذلك فإنني أعاود الحديث فى هذه القضية الحاكمة خصوصاً في ظل هذه الظروف التي يطل فيها الإرهاب الأسود بوجهه القبيح على المنطقة وهنا أطرح وجهة نظري من خلال المحاور التالية:
* أولاً: لقد جرت تحولات ضخمة في المجتمع الدولي المعاصر بحيث تصدرت العلاقات الثقافية غيرها من العوامل الحاكمة لطبيعة العلاقات الدولية عموماً، ويكفي أن نتأمل القضايا الرئيسية الثلاث وهي "العولمة" و"صراع الحضارات" و"الحرب على الإرهاب" لنكتشف أن هذه القضايا كلها ذات طبيعة ثقافية لذلك بدأ العامل الثقافي يحتل مكانة عالية في عالمنا المعاصر فالكل يدرك أن السلوك السياسي للدول يرتكز على دعائم ثقافية هي التي تشكل السياسة الخارجية لكل دولة - وفقاً لشخصيتها - في وقت أصبح فيه الخارج انعكاساً مباشراً للداخل ولعل النموذج الإيراني خير مثال على ذلك فالسياسة الخارجية "لطهران" هي انعكاس لواقع داخلي يقوم على نظام يختلف عن غيره، فالعامل الثقافي في النهاية هو عامل حاكم تتأسس عليه العوامل الأخرى .
* ثانياً: إن المثقفين هم "جيش الاستنارة" الذي يمكن أن يواجه "الإرهاب" ويقاومه وينتصر عليه لذلك فإننا عندما ندعو إلى عقد "قمة ثقافية عربية" فإن ذلك يأتي في توقيته تماماً، فالعنف في كل مكان من الوطن العربي، ويستهدفنا "الإرهاب" من كل اتجاه ربما على نحو غير مسبوق في تاريخنا الحديث وهو ما يدعونا إلى التركيز على العامل الثقافي الذي يحوي التعليم والمعرفة والثقافة والفن ويسمح بتشكيل كتائب فكرية تقهر الفكر الظلامي وتتصدى لمحاولات تشويه الدين الإسلامي والحضارة العربية، وتأليب جماعات إرهابية جديدة تكاد تولد كل يوم . إننا نتطلع إلى مواجهة شعبية ضد التطرف والعنف والإرهاب وهي مواجهة لا تتحقق إلا بتغييرات جذرية في السلوك العام للشعوب العربية والإسلامية، ويجب أن نعترف هنا أن تدهور منظومة التعليم في معظم الدول العربية قد أدى إلى ما نشهده الآن من تراجع واضح لعوامل التقدم وأسباب النهضة .
* ثالثاً: لن نتوقف عن الحديث عن "التعليم" فهو البوابة إلى عصر أكثر رقياً مما نحن فيه، فالتعليم هو "نافذة الشعوب" على الدنيا حولها وهو يستدعى بالضرورة البحث العلمي الحديث والتركيز على التدريب المهني والحرفي ومحاربة الأمية إلى جانب توظيف التعليم لخدمة التشغيل والقضاء على البطالة . فلو أخذنا الدولة المصرية نموذجاً فإننا سوف نعترف أن سبباً رئيسياً في تراجع دورها الإقليمي في فترة معينة قد ارتبط بتدهور منظومة التعليم لديها بل وتراجع الإشعاع الثقافي منها لذلك فإن "مؤتمر القمة الثقافية العربية" يجب أن يبحث في القوى الناعمة للعرب وتوظيفها ضمن العناصر الكبرى والعوامل المهمة في الحرب على الإرهاب .
رابعاً: لقد أصبحنا نسمع في عدد من المنظمات الدولية أن هناك محاولات لتقليص دور بعض اللغات المستخدمة في "الأمم المتحدة" ومنظماتها، ومن بينها اللغة العربية . وقد لاحظت شخصياً عزوف بعض تلك المنظمات عن ترجمة بعض الأوراق إلى العربية اكتفاء بلغتين أو ثلاث كبرى في مقدمة اللغات المستخدمة في المنظمة الدولية الأولى وفروعها المختلفة ووكالاتها المتخصصة، وهو ما يعني أن هناك حرباً خارجية على اللغة العربية وإن كان يزيد عليها تلك الحرب الداخلية لدى العرب أنفسهم والتي تجعلهم يستهينون بلغتهم الأم ويعتبرون الاهتمام بها جهداً ضائعاً لأن زحف اللغات الأجنبية أصبح يسيطر على الأجيال الجديدة، ويعطيهم إحساساً بأن استخدام تلك اللغات يعد دلالة على التقدم ودليلاً على الرقي وربما كان الأمر غير ذلك تماماً . "فالصينيون" على سبيل المثال يصّرون على التحدث بلغتهم في المحافل الدولية رغم إجادة بعضهم للغات الأجنبية وذلك تعبيراً عن الانتماء الوطني والانحياز للغتهم، وإذا كانت دعوتنا للقمة الثقافية العربية مرتبطة بالتعليم والحفاظ على اللغة العربية فإنها تمتد أيضاً إلى أزمة الإنتاج الثقافي والنشر عموماً في معظم الدول العربية . ويكفي أن ندرك أن مجموع عناوين الكتب الجديدة الصادرة في أكثر من اثنتين وعشرين دولة عربية لا يكاد يشكل نسبة تذكر من المنشور سنوياً في دولة مثل إسبانيا وحدها، وتلك إحدى التحديات التي يجب أن نواجهها في شجاعة لأن قدرتنا على صياغة المستقبل تتوقف على درجة إسهامنا في الفكر الإنساني المعاصر .
* خامساً: إن وزارات الثقافة العربية ومعها وزارات التعليم بمراحله المختلفة يجب أن تعد دراسات موجزة عن الغايات المطلوبة والأهداف المنظورة خصوصاً مع تركيز بعض الأساتذة الكبار على نوعية جديدة من الباحثين الذين يتوافرون لدينا، وهنا يجب أن نكون صادقين مع النفس وفي مواجهة الغير بفتح آفاق جديدة أمام المشروع الثقافي العربي الذي ينبغي ان تتبناه القمة المطلوبة .
. .إن ما نهدف إليه من الدعوة "لقمة ثقافية عربية" هو هدف سياسي بامتياز وحضاري بالدرجة الأولى احتراماً لحضارتنا، وحفاظاً على ثقافتنا، وتأكيداً لهويتنا .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"