سوريا.. تشابك وتناقض المصالح في إدلب

05:17 صباحا
قراءة 5 دقائق

د. محمد فراج أبو النور *


بعد حشد كبير للقوات حول منطقة إدلب، وقصف جوي ومدفعي مكثف، ثم معارك برية ضارية؛ تمكنت القوات السورية من تحقيق اختراق عسكري كبير في المنطقة التي ظلت لسنوات عصيّة على الاختراق، واستعاد الجيش السوري وحلفاؤه الأجزاء الشمالية من محافظة حماة من قبضة الإرهابيين.. وعبـَر الحدود الإدارية لمحافظة إدلب للمرة الأولى منذ عام 2012 واستعاد السيطرة على مدينة خان شيخون ذات الأهمية الاستراتيجية، والمناطق المحيطة بها.
تشير تطورات القتال إلى أن القوات السورية تتجه للسيطرة على مدينة «معرة النعمان» القريبة من خان شيخون، بما يفتح الباب للسيطرة على طريق حلب - دمشق الدولي بالكامل، كما يستمر القصف المكثف لمواقع جبهة (النصرة) وغيرها من المنظمات الإرهابية، بما في ذلك مواقع تلك المنظمات في مدينة إدلب، عاصمة المحافظة، ويشير كل ذلك إلى الاستعداد لفتح جبهات جديدة.
يجب أن نقول مباشرة إن الإنجازات التي حققها الجيش السوري وحلفاؤه في منطقة إدلب لم تكن لتتحقق، لولا الدعم الروسي القوي لهم، وقيام القوات الجوية الروسية بالدور الأكبر في قصف مواقع الإرهابيين، علاوة على ما قدمته للقوات الجوية السورية من دعم.
كما حشدت روسيا أعداداً كبيرة من أنظمة الدفاع الجوي، وقوات بحرية إضافية قبالة الساحل السوري، تحسباً لأي تدخل خارجي أو تصعيد تركي غير محسوب.. وقدمت الدعم الفني الضروري لكي تتم أغلب الضربات الجوية والهجمات البرية ليلاً (معدات الرؤية الليلية) وكان هذا تكتيكاً جديداً فاجأ الإرهابيين وأربكهم، وسهّل هزيمتهم.

تناقض الأفعال

وواضح أن الروس قد نفد صبرهم على (صديقهم اللدود) أردوغان، بسبب عدم احترامه «اتفاق سوتشي - سبتمبر 2017»، الذي كان يقضي بإقامة منطقة عازلة بعمق (15-20كم) حول حدود منطقة إدلب، وتجريد المنظمات الإرهابية من أسلحتها الثقيلة، والفصل بينها وبين «المسلحين» الآخرين، الذين كانوا يوصفون بالاعتدال.. وكان مفروضاً أن يتم كل هذا وفق جدول زمني ينتهي بحلول منتصف يناير 2018، أي منذ أكثر من عام ونصف العام.. لكن أردوغان فعل العكس تماماً، فسمح ل«النصرة» وغيرها من المنظمات الإرهابية باحتلال خطوط المواجهة - التي كان يفترض أن تكون مناطق عازلة، ولم يكتف بترك أسلحتها الثقيلة معها، بل زودها بأسلحة متطورة مضادة للدروع (وبعدد من الصواريخ المضادة للطائرات) وبصواريخ أرض- أرض يصل مداها إلى (50-60كم) وطائرات (درون)، الأمر الذي سمح للإرهابيين بقصف المناطق الغربية من مدينة حلب، ومدينة اللاذقية، بل وقاعدة حميميم الروسية الاستراتيجية نفسها، فضلاً على مواقع الجيش السوري وحلفائه.
وصحيح أن الدفاع الجوي الروسي تمكن من صد جميع هجمات الصواريخ وطائرات (درون) على قاعدة حميميم، لكن هذا استلزم تعبئة دفاعية مرهقة للغاية، فضلاً عما ينطوي عليه من استخفاف بروسيا وتحدٍ لها، ومخاطر جرها إلى مستنقع سوري تغوص فيه أقدامها، وهو ما لم يكن يمكن أن تسمح به موسكو.
وقد صبر الكرملين طويلاً على تلاعبات أردوغان بسبب المصالح المهمة المتداخلة بين الطرفين، من تبادل تجاري كبير، إلى اتفاق مهم لبناء محطة كهرباء نووية روسية في تركيا، وخط «السيل التركي» للغاز- وصولاً إلى صفقة الصواريخ (إس- 400) المضادة للطائرات والصواريخ .

ضغوط روسيا

وبديهي أن بوتين - الذي كان يتفادى الصدام العلني مع (الصديق اللدود) أردوغان- كان يمارس عليه الضغوط في الكواليس، علماً بأن كل المصالح المشار إليها أعلاه، هي مصالح مشتركة للطرفين. كما أن استطالة وجود المنظمات الإرهابية في إدلب - تحت إشراف وبدعم تركي- كان يزيد من خطورة الوضع فيها، وتحويلها إلى بؤرة متفجرة للإرهاب، لا تهدد الوجود الروسي في سوريا فحسب، بل أوروبا.
أما بالنسبة لأردوغان؛ فإن هذا كله لا يهمه كثيراً، فأكثر ما يشغله هو استخدام ورقة إدلب والإرهابيين بها في خدمة أغراضه الخاصة، سواء فيما يتصل بسياسته التوسعية في الشمال السوري، أو في تأكيد زعامته لتنظيم «الإخوان» الدولي واتجاه الإسلام السياسي كحامٍ «للمجاهدين» في إدلب! أو باستخدامهم - بالتنسيق مع أمريكا - وإعادة «توزيعهم» في أنحاء العالم بما يخدم السياسة الأمريكية ويزكيه لدى واشنطن،.
وكل هذه الاعتبارات مقبولة في سياسة أردوغان البراجماتية المتطرفة، خاصة أنه لا يفقد الأمل في تحسن علاقات تركيا بأمريكا، باعتبارها عضواً في «الناتو»، كما لا يفقد الأمل في صفقة مع واشنطن على حساب الأكراد، في سياق التوسع التركي في شمال سوريا.
وبديهي أن هذه الاعتبارات الأردوغانية لا تغيب عن سياسي داهية كبوتين، الذي مارس بالتأكيد ضغوطاً شديدة على أردوغان في الكواليس (بدليل صمته في بداية الهجوم الأخير)، غير أنه حينما تجاوز الهجوم نطاق التفاهمات المفترضة، وأصبحت خان شيخون مهددة بالسقوط حاول إرسال إمدادات لها، فتم قصف عربة المقدمة في رتل الإمدادات، ما جعله يتوقف. كما تم حصار نقطة المراقبة التركية في «مورك» بالقرب من خان شيخون في رسالة روسية حازمة، بأنه لم يعد هناك مجال للاستمرار في التلاعب، واتصل أردوغان ببوتين، وتم الاتفاق على زيارة له إلى موسكو (حصلت في 27 أغسطس)، وبدأ يتحدث عن المخاطر على الأمن القومي التركي، بسبب دخول الجيش السوري إلى منطقة من أرض بلاده. ورد عليه الروس بأن هذا الهجوم لم يكن ليحدث لو كان نفذ اتفاق سوتشي (2017)، وهو رد منطقي.

ضمانات مطلوبة

ونعتقد أن الزيارة التي قام بها أردوغان لموسكو لن توقف الهجوم، اللهم إلا إذا قدم ضمانات لا يمكن التلاعب بها مجدداً لتنفيذ «اتفاق سوتشي»، كما أن هناك قمة مقررة بين روسيا وتركيا وإيران في أنقرة (16 سبتمبر) يمكن أن تقدم فرصة ثانية للتفاوض، لكن الروس لن يكونوا متعجلين لوقف القتال، خاصة أن أمريكا وأوروبا لم تتحركا.
تبقى قضية أخرى شديدة الأهمية تتصل بالقوات الإيرانية والميليشيات الموالية لإيران المشاركة بفاعلية في القتال في إدلب، وقد ذكرنا في هذا المكان أكثر من مرة، أن روسيا لا تتعاطف مع مقولات مثل «محور المقاومة» أو «خط طهران- بيروت» وربما ترى في إيران منافساً مستقبلياً لها في سوريا، لكنها بالتأكيد تتمسك بوجود هذه القوات في جبهات القتال ضد الإرهاب في الوقت الراهن، وربما ضد الأكراد أو التحالف الغربي في شرق الفرات مستقبلاً. لكنها لا تتدخل لمنع الضربات «الإسرائيلية» ضد تلك القوات بعيداً عن جبهات القتال، لأن هذا لا يمس مصالح موسكو.
هكذا تتشابك وتتناقض المصالح الإقليمية والدولية في إدلب، ولا تزال المعركة ممتدة والمصالح تلتقي حيناً، وتتصارع أحياناً كثيرة، والشعب السوري هو الذي يدفع الثمن.

* كاتب ومحلل سياسي خبير في الشؤون الروسية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"