ملامح من الوطن ... "تل أبرق" تاريخ لم يكشف كل حكاياته

يعود إلى 5 آلاف سنة قبل الميلاد
14:43 مساء
قراءة 6 دقائق

يعد تل أبرق أكبر التلال الموجودة في منطقة الخليج بشكل عام وقد كشفت التنقيبات أنه كان مدينة مهمة بسبب الاستيطان المتكرر الذي توالى عليه الأمر الذي شكل منه طبقات أثرية كثيرة، تشغل حيزاً زمنياً يمتد لأكثر من ألفي عام ابتداء من عصر أم النار وانتهاء بالعصر الحديث .

مدينة تل أبرق الكبيرة كانت تقع مباشرة على الساحل الغربي للخليج العربي واليوم تبعد حوالي 7 كيلومترات عن الساحل وهو دليل على تراجع موقع البحر .

ويقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة الشارقة وأم القيوين بالقرب من الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة ويرتفع مسافة 10 أمتار فوق مستوى السهل المجاور، ويتكون التل بصورة رئيسية من بيوت مقامة من سعف النخيل براستي أو عريش تحيط بحصن ضخم مشيد باللبن بواجهة حجرية يبلغ قطرها 40 متراً وهي الأكبر بين قلاع من صنف قلاع أم النار مثل قلعة الهيلي التي يبلغ قطرها 8،1 متر وقلعة البدية وكلباء التي يتراوح قطر كل منهما في الغالب بين 16 و25 متراً، ويستدل على بيوت السعف اليوم بوجود عدد كبير من ثقوب الأعمدة في جميع المناطق المنقبة في حين يرتفع الحصن إلى مسافة حوالي 8 أمتار من مستوى الأرض الأصلية إلى أعلى الجدران الداخلية المشيدة باللبن .

ويحتوى الموقع في داخله بئراً، وبذلك يوفر ملجأ ومصدراً للمياه في أوقات الشدة وكان الحصن قيد الاستعمال منذ حوالي 2200 إلى 1500 ق .م عندما تم تشييد مصطبة من اللبن غطت البناء السابق وحفظته من التآكل والتخريب، وعلى بعد 10 أمتار غرب الحصن يوجد قبر دائري الشكل مشيد بالحجارة من طراز فترة أم النار يبلغ قطره 6 أمتار مقسم من الداخل بجدار واحد فقط ويبدو أنه كان مدفناً جماعياً لسكان تل أبرق أثناء فترة استيطانه المبكرة ويحتوي القبر على بقايا أكثر من 150 فرداً بينهم أطفال ورجال تزيد أعمارهم على60 عاماً رغم أن معدل عمر الإنسان لا يتجاوز 40 عاماً .

وأظهرت دراسات تحليل العظام أن عضلات السكان كانت ضخمة وأن عظامهم كبيرة جداً وأظهرت الدراسة أيضاً أن السكان عانوا بعض الأمراض، وقد تبين من خلال دراسة هيكل عظمي لفتاة تبلغ من العمر 18 عاماً أنها كانت تعاني مرض شلل الأطفال، كما اكتشفت عدة حالات من مرض التهاب المفاصل، ولاشك في أن هناك قبوراً أخرى تعود إلى فترات متأخرة إلا أنه لم يعثر عليها بعد .

اتصالات واسعة

تم اكتشاف عدد كبير من المواد المصنوعة في تل أبرق التي تشهد على قيام اتصالات واسعة النطاق مع العالم الخارجي، فقد تم التعرف إلى فخاريات من وادي الرافدين وجنوب غربي إيران وبلوشستان والبحرين وأفغانستان بكتريا ووادي السند، إضافة إلى مواد أثرية أخرى نذكر منها على سبيل المثال الأختام الأسطوانية الفضية من إيران والقصدير من أفغانستان، وتظهر هذه المصنوعات أن الموقع كان على اتصال مع مناطق أوسع في العصر البرونزي في غرب ووسط وجنوب آسيا .

وضمت مكتشفات تل أبرق مجموعة من بقايا حيوانية والتي تعد الأكبر التي يتم اكتشافها في أي موقع اثري في شبه الجزيرة العربية، وتشير هذه المكتشفات إلى ممارسة تربية حيوانات مدجنة مثل الأغنام والماعز والماشية كما تم اصطياد حيوانات برية محلية مثل الغزلان والظباء العربية ومن بين البقايا العظمية هيكل كامل لحمار عمره 4 آلاف سنة، إضافة إلى الكثير من عظام الهجن وقد تم استهلاك كميات كبيرة من الأسماك والأصداف والسلاحف من الخليج العربي وفي مجال الزراعة زرعت الحنطة والشعير والنخيل وكانت الحبوب تطحن بواسطة أحجار كبيرة الحجم وجدت في الموقع كما قام سكان تل أبرق بصنع أدوات من النحاس الذي استخرجوه من الجبال الموجودة على بعد 50 كم من الموقع .

ومن مميزات التل وجود برج دائري كبير يبلغ قطره حوالي 40 متراً يمثل قلعة من أكبر قلاع المنطقة كان يسكن الناس داخله وخارجه، إضافة إلى مواضع أخرى للسكن قريبة من الموقع .

وبإزالة طبقة تالية أقدم كشف عن منصة كبيرة جداً من اللبن بنيت لأغراض دفاعية أصلاً وسكنية لوقت لاحق ولكن الآثار تشير إلى أن بداية سكن الانسان بالموقع كانت في الألف الثالث قبل الميلاد ما يعني مرور 5 آلاف سنة على تعمير الموقع .

كذلك تم اكتشاف قبر دائري الشكل والذي يبلغ قطره حوالي 6 أمتار، ويعود إلى فترة حضارية أعتاد علماء الآثار والمنقبون تسميتها عصر أم النار، وفي تلك الفترة يتوقع وجود البرج، الذي يبين أن القبر تميز بشكله الدائري وبأحجار ذات وجه منتظم ومتساو من الخارج ومدخل يؤدي إلى حجرات دفن داخلية وفيها عثر على عظام بشرية وهياكل لأكثر من 150 شخصاً بمعنى أنه كان قبراً جماعياً، بما يعطي دليلاً آخر على أن قبور عصر أم النار تمتاز بأنها قبور جماعية .

ولكن هؤلاء البشر دفنوا على فترات متوالية، مع هدايا دفينة كثيرة ومتنوعة، حيث عثر في موقع الدفن على مجموعة من الأواني الفخارية المزخرفة الجميلة والمعروضة الآن في متحف الشارقة للآثار، وكذلك الأواني المصنوعة من حجر النار وتحمل زخارف محززة وأشكالاً هندسية، إضافة إلى مواد أخرى مثل الأسلحة المصنوعة من البرونز وأدوات الزينة ومجموعة من الخناجر ورؤوس السهام .

من جانب آخر زودت دراسة بقايا العظام البشرية العلماء بكثير من المعلومات حيث تبين أن أهل تل أبرق كانوا ذا عظام وعضلات ضخمة وهي حسب وصفه ظاهرة غريبة، ربما توضح أن الأعمال التي كانوا يؤدونها تستحق جهداً بدنياً عالياً مثل تشييد الأبراج ونقل الأحجار الضخمة .

مقدرة صناعية ومعمارية

ويقدم تل أبرق أدلة على التغذية والصناعة القائمة على الدمج بين اللحوم والحبوب ولهذا استخدمت الفخاريات ومارس السكان الزراعة، خاصة في فترة العصر البرونزي وهو ما تشير إليه آلات طحن الحبوب ودلت عليها الأحجار الكبيرة في الموقع، كما تتعلق الأدلة بوجود صناعة النحاس ووجود آلات مصنوعة من النحاس المستوردة، والمحلي الصنع وربما استخدموا خامات النحاس والقصدير الموجودة في الجبال المجاورة وصنعوا منها ما يريدون، على الرغم من صعوبة إثبات أن مكان الصنع كان تل أبرق أو أنها استوردت والحالتان واردتان ولكن أيضاً استناداً إلى المقدرة الفنية والمعمارية التي تميز بها سكان الموقع قد تكون صنعت محلياً، ولا يوجد دليل على أن أدوات أخرى لم تكن قد صنعت محلياً .

وقد استوطن الموقع بشكل متواصل من الألف الثالث إلى الألف الأول والسبب الرئيسي الذي دعا الناس لهجرته بل وهجرة أي موقع يسمى اليوم أثرياً هو تغير المناخ وحصول الجفاف وانعدام أو قلة مياه الشرب وترتب على ذلك قلة المراعي واضمحلالها أو نتيجة هجمات خارجية ساهمت بشكل مباشر في هجرة البشر من المكان .

ورقة بحثية

وفي ورقة بحثية عالمية كشف ديان باركر طالب الدكتوراه بقسم الآثار الشرقية، بجامعة سيدني الاسترالية أنه خصص ورقته لتناول دراسة الهندسة المعمارية لطبقات العصر البرونزي في الحقبة التاريخية بين (2300-1250 قبل الميلاد)، ومن أكثر الأماكن التي ترتبط بهذه الطبقات وتتضح فيها معالم هذه الحقبة التاريخية، منطقة تل أبرق المعروفة منذ القدم بهذا الاسم، في المنطقة المعروفة باسم ما بين النهرين ومجان .

وبناء على منحة علمية للباحث في العام 2007 الماضي، غطت نفقات العمل الميداني المتعلقة بالحفريات الجديدة في تل أبرق واتاحت للباحث فرصة إعادة النظر في بنية طبقات العصر البرونزي .

ويقدم ديان باركر وصفاً للموقع على حدود إمارة الشارقة وأم القيوين، وما فيه من حفر جزئي بدأ بين عامي 1989 و ،1998 ولمدة خمسة مواسم تحت إشراف البروفسور دان بوتس، وبعد توقف دام تسع سنوات، أعيد الحفر في ثمرة تعاون بين جامعته وكلية برين ماور المشتركة الأثرية في جامعة تبنجن .

وشارك فيه الأساتذة بيتر ماجي وهانز ومارجريت بيتر، تحت رعاية إدارة الآثار في الشارقة إضافة إلى فريق مكون من بعض الطلاب الجامعيين منهم مار برين بقيادة مدير الميدان، مارك هاندل، والذين فضلوا العمل في مسح تاريخي لمنطقة الحمرية في إمارة الشارقة .

ويقول ديان، تتميز الحمرية بنطاقها الواسع من الكثبان الرملية المنخفضة، ووجدنا فيها عدداً من الودائع التي تعود إلى العصر الحجري والعصر الحديدي وصولاً إلى العصر الحديث، والودائع كلها تقع بالقرب من البحيرة القديمة والتي تتكون الآن من سبخة المسطحات الملحية، وتمثل الودائع نشاطاً بشرياً حول الموقع المحصن في تل أبرق وغرف لعظام الحيوانات البحرية والصحراوية .

وباستمرار الحفر في تل أبرق والمسح في منطقة الحمرية بشكل عام وجدنا بعض الودائع المعدنية من القصدير والنحاس، والتي تستحق النظر وأرسلناها ومعها عينات من الفحم الذي عثر عليه في هذه المنطقة لكشف الكربون 14 أو الكربون المشع وعن طريقه تتم معرفة عمر القطعة التي تم العثور عليها .

ووجه ديان باركر ضمن ورقته البحثية الشكر لكل من ساعده في إنجاز بحثه وخص صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة بالشكر، لتوفيره المتطلبات اللازمة لعلماء الأركولوجي من خلال إدارة الآثار في الشارقة والدكتور صباح جاسم مدير متحف الآثار ومؤسسة الشرق الأدنى لعلم الآثار الشرقية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"