كلباء تبوح بأسرارها لطالبات التراث

ساحة تعليمية يستثمرها معهد الشارقة
00:55 صباحا
قراءة 6 دقائق
أمل سرور

«الجيل الجديد يجب أن يعرف كم قاسى الجيل الذي سبقه؛ لأن ذلك يزيده صلابة وصبراً وجهاداً لمواصلة المسيرة التي بدأها الآباء والأجداد، وهي المسيرة التي جسدت في النهاية الأماني القومية، بعد فترة طويلة من المعاناة ضد التجزئة والتخلف والحرمان». وحدها كلمات المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، لا أجد أصدق منها ولا أكثر تعبيراً عما رأته عيني لأبدأ بها سطوري المقبلة. فقط عباراته التي تدفعك دفعاً لتأملها، لتفهم فلسفة هذا الشعب والحكمة التي جعلته يدرك مدى أهمية تاريخه، ويتفنن في التمسك بأعرافه وتقاليده، ويفخر بتراثه وماضيه اللذين يعتبرهما الأساس فيما وصل إليه من تقدم وتطور الآن.
وحدها كلمات المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان، كانت تلاحقني طوال الرحلة الميدانية لطالبات الدبلومات المهنية التابعة لمعهد الشارقة للتراث، التي انطلقت إلى المدينة الأسطورية المعبأة برائحة التاريخ.. كلباء.
ها هي سيارتنا تنطلق، لتشق الطريق عبر وادي الحلو، لا تملك سوى الاستسلام لتلك الجبال الصلدة التي تتأمل قوة شموخها من نافذة السيارة، لا محالة تسمع صوتها يناديك من بعيد مهللاً بالترحاب، وبكل الحنان الذي تخفيه بين صخورها تحتضنك لتشد حواسك جميعها لتجد روحك هائمة على أعتاب مدينة كلباء.

رائحة التراث الأصيل الذي يحمل حكمة وفلسفة ومعاناة الأجداد تنطلق من خلف جبال كلباء العتيقة، أصوات طالبات معهد الشارقة للتراث تعلو بكلمات الإعجاب والانبهار بتلك المدينة القديمة التي تشعرك مع كل زيارة لها أنها الأولى من نوعها. الدكتور سعيد حداد، مدير معهد الشارقة للتراث فرع كلباء كان خير مفتتح لانطلاق رحلتنا التي اصطحبنا فيها، ولم يبخل منذ اللحظة الأولى التي وطِئت فيها طالبات المعهد أرض كلباء على تقديم كل ما هو مفيد وثري لنا جميعاً.

بعد لحظات قليلة من التعارف استطاع الرجل أن يرسم الهدوء والبسمة، ويؤجج حالة الفضول لدى طالبات دبلوم الجمع الميداني، ودبلوم إدارة التراث الثقافي لمعرفة الكثير من الأسرار عن المدينة. وما إن امتطينا سيارتنا التي عرفنا أنها ستقلنا إلى أحد أهم رواة كلباء؛ لنسمع منه القصص التراثية القديمة حتى بدأ د. الحداد حديثه عن المدينة، قائلاً: «كلباء تتمتع بخصوصية جمالية تراثية فريدة من نوعها، حيث تتميز بوجود عدد كبير من القلاع والحصون القديمة ذات الأشكال المختلفة، الدائرية والمخروطية والمربعة، وأنشئت لأغراض عسكرية».

يواصل الحداد حديثه، قائلاً: «من أشهر الحصون التي كان لها دور كبير في حماية المنطقة من المهاجمين الاستعماريين حصن كلباء الذي يعود تاريخه إلى فترة الاستعمار البرتغالي للمنطقة، ويقع على شاطئ البحر، وحصن الغيل الذي يقع في ضاحية الغيل على قمة أحد الجبال في المنطقة، وحصن خور كلباء».
يوضح الحداد أن الحصون كانت سابقاً أهم مركز دفاعي لحماية المدينة، والحصن كان يعتبر قصراً أيضاً؛ لأن حاكم المدينة يعيش فيه ويتخذه مسكناً ويتحصن فيه؛ إذ لم تكن الحصون للحرب فقط بل للسلم أيضاً، وهناك إشارات كان يستخدمها الحراس في الحصون كإطلاق النيران من خلال البنادق المسماة محلياً «التفق» في الليل أو النهار، ومعناه أن هناك أمراً ما حدث أو سيحدث، فإذا أطلقوا طلقتين فمعناه أن هناك غارة على المدينة أو حريقاً، وتلك الطلقتان التحذيريتان تنذران بالسوء. أما إذا كانت ثلاث طلقات، فهي مناسبة سعيدة، مثل رؤية هلال رمضان أو هلال شوال أو العيد الكبير أو وصول حاكم البلاد بعد غيبة، ولم تنتهِ وظائف الحصون اليوم بعد التطور الحديث في المباني، فما زالت مستعملة كمتاحف أو مكاتب إدارية حكومية.
ما إن أنهى الحداد حديثه حتى وقف موتور سيارتنا ليعلن وصولنا إلى خور كلباء؛ حيث سيكون لقاؤنا مع الراوي عثمان باروت سليم الباروت، الذي استقبلنا بابتسامة أسطورية ارتسمت على ملامحه، ولم يقطع حالة صمته وتأمله لمنطقة الخور القديمة سوى صوت د. الحداد الذي راح يتكلم عنه؛ ليعرفنا به قائلاً: «حين نلتقي الراوي عثمان الباروت فكأننا نقف أمام التاريخ وجهاً لوجه، فهو الذي ذهب إلى (المطوع) فقرأ القرآن، وتعلم الكتابة كسائر أبناء المجتمع آنذاك، ومارس في صباه الكثير من الألعاب وبرع فيها، وبدأ في مراهقته مزاولة العمل، ليسهم في إعالة أسرته، وكان الأطفال في تلك الفترة ينخرطون في العمل في فترة مبكرة».
عمل باروت في البداية مساعد بحار على قارب «الماشوه»، وهو سفينة تزويد تنقل إلى سفن الغوص الأدوات والمؤونة التي يحتاجها الغواصون في غيبتهم الطويلة لصيد اللؤلؤ في أعالي البحر، حيث يقيمون فترة طويلة هناك، ثم تطور عمله ليصبح ينقل البضائع بقاربه من السفن الكبيرة التي لا تستطيع الرسو في الخور لإيصالها إلى الشاطئ، بالتأكيد لديه الكثير ليقوله لنا في تلك الجلسة.

البسط والنخيل

بصوت هادئ رخيم بدأ باروت حديثه قائلاً: «كانت معيشتنا في الماضي بسيطة وقاسية، اعتمدنا فيها على ركوب البحر لصيد الأسماك بأنواعها المختلفة، والرعي، وزراعة أشجار النخيل وبعض الخضراوات والفواكه، وجمع الحطب من المناطق المجاورة، وكان عدد بيوت كلباء قديماً قليلاً، منها الشتوي المبني من الحجارة والطين وسعف النخيل، ومنها الصيفي العريش المبني من سعف وجريد النخيل».

صمت باروت وشرد بذهنه بعيداً فأدركت أن ثمة ذكريات تحمل رائحة القديم في الطريق إلينا، وكان عندما بدأ الرجل يتحدث بصوت جسور قائلاً: «بدأنا ركوب البحر باستخدام قوارب مصنوعة من الجريد، وكانت تسمى (البسط)، وكان أجدادنا يثبتون الجريد بخيط سميك من القطن يسمى (الخيط الحيطي)، ثم بدؤوا بعد ذلك في صناعة السفن من الخشب من خلال حفر جذع الشجرة ليصبح مركباً صغيراً، وسمي هذا النوع (البانوش). ثم استخدموا ألواح الخشب في صناعة السفن والقوارب التقليدية».

يضيف: «بحلول القرن ال15 الميلادي والقرون التالية كانت منطقة الإمارات تمثل قمة المعرفة بأسرار البحار، وأحوال الملاحة، وأحوال المياه والرياح، إلا أن الصيد مهنة شاقة وتحتاج إلى كثير من الجهد والعمل الجماعي، فإنزال القارب إلى المياه كان يحتاج إلى مجموعة من الناس يسحبونه بعيداً إلى الشاطئ، والأمر نفسه عند العودة من الصيد، وفي الوقت الذي كان الصيادون يعانون التعب والإنهاك، كان على الصياد أن يبذل الكثير من الجهد لسحب القارب إلى اليابسة، وهي عملية أصعب من الإنزال إلى الماء؛ نتيجة لارتفاع مستوى الأرض عن البحر».

ختم باروت حديثه مركزاً على الحكايات التي تحفظ تراث القيم الأصيلة في الإمارات، قائلاً: «تلك الحكايات التي تحفظها ذاكرتي توثق للكثير من أنواع العلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة، وأشكال التقاليد التي كانت تحكم المجتمع، كما توثق مهناً كثيرة، وتبين الترابط الأصيل والبناء الذي كان يربط الناس فيما بينهم، والقائم على تسيير مصالحهم وحفظ منافعهم، ما يعكس وحدة المجتمع وترابطه».

غناء البحر

ما زالت جلستنا مع الحكايات والتاريخ ممتدة خصوصاً حين التقت طالبات معهد الشارقة للتراث الراوي سيف مطر عبدالله الزعابي، الذي تحدث في البداية عن أهمية مدينة كلباء، قائلاً: «هنا يجتمع التاريخ مع التراث؛ إذ حبا الله -سبحانه وتعالى- تلك المدينة القديمة بموقع جغرافي تُحسد عليه، فهي تقع أقصى شرق الإمارات، على خط الحدود الفاصل بيننا وبين سلطنة عمان، وهي تطل على ساحل عمان، فيما يشبه تماماً حرف الباء، ومن هنا جاءت التسمية كالباء أي مثل الباء أو شبيهة بها، وخففت مع الأيام إلى كلباء».

يضيف الزعابي: «هي مدينة قديمة تاريخياً؛ إذ دلت المكتشفات الأثرية على ذلك، كما أن العديد من المؤرخين والرحالة ذكروها في كتبهم وخرائطهم الخاصة بمنطقة الجزيرة العربية، وتتمتع بمواقع أثرية جميلة، منها حصن كلباء الأثري وحصن الغيل وحصن خور كلباء، وتعتبر من أهم مدن الشارقة وأكثرها جمالاً وهدوءاً، وهي عبارة عن سهل ساحلي منبسط، تحيط به الجبال على طول الساحل، وتبلغ مساحتها نحو 66 كيلومتراً مربعاً، واستطاعت خلال فترة وجيزة أن تقطع أشواطاً في إعادة رسم خريطتها السياحية، بما يتناسب والطفرة الهائلة التي تشهدها البلاد في هذا القطاع، ليقضي الزوار أجمل الأوقات بين ربوع المنطقة الطبيعية الساحرة».

وعن غناء البحر وفنون الصيد القديمة يقول الزغابي: «لا يقتصر تأثير الصيد وصناعة السفن على الجوانب الاقتصادية والحياتية فقط، ولكن أيضاً على الفنون التراثية، فظهرت فنون خاصة ارتبطت بالبحر وحياته والعمل به، أبرزها الغناء الذي يصاحب رحلة الصيد، وهو غناء متعدد الإيقاعات والأسماء. فالنهام هو منشد شعبي يعلق في رقبته طبلة متوسطة الحجم أسطوانية الشكل ذات وجهين، يدق عليها ليعطي الإيقاع المناسب، وتتخلله حركات تعبيرية، تمثل تمايل السفينة فوق الأمواج، وإلقاء الصيادين شباك صيد السمك».

يختم الزعابي حديثه الذي وجهه لطالبات المعهد، قائلاً: «عانى أجدادنا الكثير من الظروف القاسية، وعليكم أنتم -ممثلي الأجيال الجديدة- صون تراثنا والحفاظ عليه، ولم ينسَ أن يوجه تحيته وشكره لكل المسؤولين على تلك الدبلومات المهنية المتخصصة في التراث، وعلى رأسهم عبد العزيز المسلم رئيس معهد الشارقة للتراث».

اقترب موعد الرحيل، وقاربت رحلتنا على الانتهاء، وقبل أن نغادر تلك المدينة العريقة التي استطعنا من خلال زيارتها والجلوس مع أهلها أن نشم رائحة التاريخ عن قرب، لنتعرف إلى معاناة الأجداد الذين رسموا لأبنائهم وأحفادهم طريق الحاضر والمستقبل معاً، لم ننسَ أن نودع حصنها العتيق الملقب ب«القلعة» الذي يقع على ساحل الخليج وسط مدينة كلباء حالياً، ذلك الذي يضم بيت الشيخ سعيد بن محمد القاسمي المقابل له من الجانب الشرقي، تلك التي تقف شامخة شاهدة على كفاح وتاريخ وفلسفة شعب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"