قراءة في ورقة السرير لأحمد راشد ثاني

الذكريات وسوسة والكتابة فم
04:42 صباحا
قراءة 9 دقائق

النص الطويل الذي نشره أحمد راشد ثاني على خمس حلقات في الملحق الثقافي الأسبوعي للخليج من 16 فبراير/شباط إلى 15 مارس/آذار ،2008 بعنوان ورقة السرير جعلني، إضافة إلى قراءة كل حلقة في وقت نشرها من كل أسبوع واقتصاصها جانباً لنيّة مبيتة في قراءة لاحقة، أعاود، بالفعل، قراءة النصّ كاملاً بعد انتهاء الأسابيع الخمسة، وأفطن إلى أن القراءة الأولى المقسّطة كانت تستجيب، أكثر من أي شيء آخر، إلى فضول القارىء داخلي وإلى بذرة المازوشية الصغيرة الراقدة في أعماق كل منا، تلك التي تتلذّذ بقراءة النصوص الحزينة والعودة إليها بين حين وآخر مثلما يعاود بطل دوستويفسكي زيارة مسرح جريمته. غير أنّ قراءة النص كاملاً أوقفني أمام كتابة تأمّليّة كاشفة، تهيمن عليها أنساق ذلك الجنس الأدبي الذي تفتقده ساحتنا الثقافية، وأعني السيرة الذاتية.

أحمد راشد ثاني أدار حواراً بين الذات والحياة عبر شخصية الأم أو بالأحرى عبر المعاناة والذكريات التي أعقبت سقوط هذه الأم على سرير المرض، ومن منظور استعادي للسرد أنتج وعياً جديداً بالذات والحياة وولّد قيماً من الألفة التي يحتاجها القارىء كي يتعاطى بصدق مع التجربة الإنسانية التي أمامه. ولأن هذه الكتابة ترتبط بالمرجعيّ أكثر من ارتباطها بالخيالي، فإن الجرأة الأدبية، وإسقاط تلك المحاذير التي يتوخاها الكاتب الشرقي غالباً، كالمحاذير الاجتماعية وغيرها، لابدّ وأن تقابلها نزعة إدانة عند البعض (إحداهن قالت لي مستنكرة: هل قرأت ما كتبه أحمد راشد؟ كيف جرؤ على الكتابة عن أمه بهذه الطريقة ومن دون وخز ضمير على ما يبدو؟)، لكن أليست هذه النوعية من الكتابة هي تجربة في قول الحقيقة بتعبير غوسدوف؟ الحقيقة بمعناها الذي يفكّ لغز العلاقة بين الذات والآخر، والذات والوجود، وبالتالي يمنحنا كقراء فرصة مماثلة في التأمل والبحث عن حقيقتنا الخاصة، إذا جاز التعبير؟ متى كان على راوي السيرة أن يجمّل ذكرياته المستعادة والمتعلّقة بمرحلة معينة من حياته، هو الذي يجهد في الإمساك بها فقط ليفلتها في الكتابة ويطرح عبرها إشكالية الوجود والمصير؟

ألا تبدو الذكريات مثل وسوسة والكتابة هي الفمّ؟

لست هنا بصدد طرح المزيد من التساؤلات حول جدوى هذا النوع من الكتابة ولا البحث في التهم التي تُلصق، عادة، بالذكريات الوفية لمرجعيتها، إذ لم ينج منها كبار الكتاب حتى من قبل نقّاد عصرهم منذ اعترافات روسو وذكريات طفولته التي ولّدت ما سماه فيليب لوجون بالإيديولوجيا المضادة للسيرة الذاتية، إنما أرغب، مثل كثيرين غيري، في اقتسام هذه الحصة التي يلوذ إليها السارد والقارىء معاً في محاولة لتوسيع دائرة الأنا والتماهي مع التجربة الإنسانية التي ترتفع إليها الكتابة، وهذا ما يجعل المرء يتمنّي، على هذا الابن الوحيد والعقد الفريد، وسط أخوين رحلا عن الحياة باكراً، أن يواصل وضع الذاكرة في الزمن، ويترك النهر يأخذ مجراه فيخرج لنا فعلاً أدبيّاً وفنّياً غائباً عن ساحتنا المحلية وهو فن السيرة الذاتية.

* * *

من خلال نص ورقة السرير انطلق أحمد راشد ثاني من حادثة سقوط والدته، السيدة فاطمة راشد عبود، على سرير المرض ليرسم لنا تراجيديا الواقع بمختلف أبعاده، بدءاً من تلقي الخبر المُفاجىء عن طريق اتصال العاملة ميري، ثم ذكرياته عن والدته العنيدة، مروراً بمعاناته في نقلها من مستشفى خورفكان إلى سرير في أحد مستشفيات ابوظبي حيث يعمل هو وليس انتهاء بكون هذا النقل قد جاء في وقت انتهى فيه عقد شقته وعليه البحث عن بديل مكانيّ آخر، هو الذي طالما هرب وتشقّق في الشقق!

لقد صاغ أحمد راشد سيرة مبتسرة لكنها وافية عن تلك المرأة النقبية، ذات الطاقة الجبارة التي لا تكلّ ولا تمل، والتي لم تهذب حادثة مقتل زوجها من شراستها بل حملت حصاة الغياب بين ضلوعها طيلة حياتها، حتى أنه كان يسمع قرقعة تلك الحصاة في أناشيدها الغامضة، وأزعم أنه حاول، غير مرّة، أن يسمعنا نحن أيضاً بعض قرقعتها.

لم يحاول الكاتب، تحت وطأة حزنه وهلعه على كتلة العظام المحشورة في جسد ضئيل ملقى على سرير المستشفى، أن يزيّن صورة الأم استجابة للرمز الأمومي في الذاكرة الجاهزة، بل أخرجها من إطارها الملائكي ووصفها لنا كما يراها، بل كما تراها ذاكرته المبكرة عندما هجر البيت الذي حوّلته إلى مزرعة لتطبيق الأوامر فتركها ووالده البحّار يتشاجران حول الأشجار وولى وجهه شطر الغربة الأخرى. ولكي يجد مبرراً لحدّة طباعها وشراستها غير القابلة للتهذيب، عمد الابن العاق كما يطلق على نفسه- إلى تقمّص مهمّة المحلّل النفسي مستدعياً قسوة طفولتها وماضيها، وصدفة زواجها من بحّار عابر من خارج جموع قبيلتها، هي التي ولدت في تنور الطبيعة وعاشت بين نيرانه ولم تكن من البنات الجميلات كي تخرج على الأقل من التنور بأقلّ ما يمكن من الحروق، حتى خلُص إلى أن ما تبقى منها بطبيعة الحال هو ما يتبقى من الإنسان بعد شواء الوجود.

لقد أدخلنا النصّ، على إثر حادثة سقوط الأم، في حالة من القلق والترقب وهو يهرول بنا بين مستشفى خورفكان وأبوظبي في محاولات مريرة للحصول على ورقة تخوّل الابن لنقل أمه إلى مستشفى قريب من مكان عمله، وقد بدا الأمر في مراوحته ومفارقاته وكأننا أمام مشهد من فيلم لاتيني أو مصريّ ذي مسحة كوميدية سوداء، فالأمر البسيط الذي يفترض ألاّ يتطلب أكثر من ورقة نقل وسيارة إسعاف، أصبح معجزة تتطلب موهبة تلو موهبة وأوامر وتوصيات ومكالمات هاتفية تولّدُ مداً يغمر كاتبها بالأمل أحياناً، ثم يأتي الجزر فتنحسر الآمال إلا عن اقتراحات مثل أن يشتري سريراً لوالدته ويأخذها لمستشفى خاص ويستأجر سيارة إسعاف لنقلها!

في أثناء ذلك، يأخذنا أحمد راشد في جولة بين الأماكن، والذكريات، والهمّ الذاتي ونرى مسحة الحزن وقد لاحت كل شيء، فمرات المستشفى مريضة، وبيت الأمّ، في غيابها، مريض وغارق في الغبار واللعنات أسقط على تلك الأفرشة التي استوطنها الغبار وأفكّر إلى متى تستمر بملاحقتي عيون اللعنة. أمي انتهت!

حتى الدشداشة تغدو معذّبة، وهو يقف بداخلها عند مدخل المستشفى بانتظار هاتف الرحمة الذي سيحمل الأمّ على المحفة البيضاء (وهذا وقت مناسب لأحلام اليقظة!) بل يكتشف الكاتب، عندما يذهب لتناول وجبة طعامه في مطعم قديم صامد منذ الأيام الخوالي، ان البراتا والكيما أو البراتا والدال قد افتقد طعمه الطيب الذي كان. لقد تضافر الزمن مع قسوة الظروف ليغّير كل شيء.

ثمة نغمة للمكان في حياة الكاتب، لكنّ خللاً ما أصابها الآن، ولا يمكن أن نردّ هذا الخلل للزمن الذي تغيّر فحسب، بل لتلك المعاناة التي يرسم الكاتب وطأتها والتي لابدّ للمكان، الذي هو خورفكان هنا، أن يشارك في تراجيديتها مادام هذا المكان يستمد خصوصيته من عين رائيه، فالحالة التراجيدية اسهمت بشكل كبير في فشل الكاتب في أن يعيد خورفكان الأولى إلى الحياة، لأننا كي نستعيد مكاننا الأول، هناك جملة من المحفزات التي تبدو مفقودة ما جعل وصف المكان خالٍ من أي شاعرية قبل أن يتبعه برسم صورة ساخرة من فرط مرارتها للمظاهر الكاذبة التي بدأت تعمّ حيثما التفت، والتي تبدو معادلاً آخر للموت. موت الحياة!

حتى تلك المرأة الجاهلة وزوجها الغبي تحجبا. حتى الشوارع تحجّبت. حتى الجبال. حتى البحر. حتى المستشفى كذلك تحجّب. وبدلاً من كتيبات إرشاد المرضى، هناك كتيبات أخرى تساعد على الموت بينما كل المرضى يتمنون لو يخرجون من عذاب هذا المستشفى في الصباح المبكر من الغد. ألا تذكرنا هذه الصورة المرسومة للجهل، في زمن يفترض أن يكون فيه الناس أكثر وعياً، بالأم التي لا تؤمن بالطبّ الحديث بل تمنح ولاءها المطلق لاليعدة كما وصفها الابن في بداية النص؟! ثمة وجوه كثيرة للجهل إذن، قد يعمقها الزمن بدلاً من أن يجتثها!

لقد امتدت تلك النبرة المتهكمة حول المظاهر الكاذبة فشملت جامعي الحسنات أيضاً، أولئك الذين يهمهم أن يعودوا أكبر عدد ممكن من المرضى لزيادة رصيدهم من الحسنات لكنّ واحدهم يكتفي بالسلام على الأصحاء لأن صندوقهم لا يغري بالاستثمار. وبين حين وآخر تطلّ هذه السخرية برأسها لخلق مفارقة، أو لترطيب حدّة الموقف، لكنها في الوقت نفسه، تمنح النصّ بعداً نقدياً من دون أن تدين الظاهرة الاجتماعية بشكل مباشر وفجّ. هي تسعف النص من الغرق في بحر عاطفته الحزينة وتزيد من نسبة الضوء داخل إطار الصورة القاتمة التي يرسمها الكاتب!

* * *

يتساءل الكاتب كم عمر ذاكرة الإنسان؟ بعضنا يدّعي أنه يتذكر لحظة ولادته، أو حتى ما قبلها. أنا واحد من هؤلاء الأدعياء.

هل نصدقه إذن؟

لكن ماذا يملك الطفل المحروم إلا الادعاء؟

الطفل الذي ينام مع صغيرات الأغنام على فراشه إن وجد. الطفل الذي لم يرتو من حليب أمه ولا حتى من الحليب المعلّب. الطفل الذي أُرهقت طفولته بأشغال شاقة منها أخذ الأغنام كل صباح إلى المرعى القاحل وتوفير الطعام لها، لأنّ أمه تهتم بأمر مواشيها أكثر من اهتمامها بطفلها، هذا الذي تلقى على ظهره كل الواجبات.

لقد قال الكاتب في مطلع الحلقة الثانية بأنه لا ينوي الحديث عن وحدته أو علاقة أمه به بل ليحكي عنها هي، لكنّ مثل هذا الأمر بدا متعذراً في سيرةٍ، منطق السرد فيها قوامه التأريخ للأنا والذاكرة، فعلاقة الكاتب بأمه تتكشّف من خلال سرده لطبيعة طفولته. ربما ليس بالعمق الذي يسمح بإشباع فضول القارىء، لكنه كافٍ لتخيّل علاقة متوترة بين ابن عاق وأم ملأت البيت بالحياة والوحشة فكيف لهذين النقيضين أن يقتسما المكان ذاته، بل أية مفارقة يمكن أن نتوقعها في اجتماعهما من دون خسائر نفسية؟

أما الوحدة، التي لا ينوي الكاتب الحديث عنها، فقد تحدثت عن نفسها طيلة الرحلة، وأزعم أنّ الكاتب قد حاول أن يتملص منها على مرأى من قارئه.

ألم يختلق فجأة صديقاً يخاطبه في النص؟ صديق نبت من مفصل سرده لوساوسه حول الموت، ذلك المراوغ الذي يتجسد في النظرات، يندس تحت الطاولة، يضحك في المرآة، ويسرق الناس من دون مراعاة لأي اعتبارات سوى مزاجيته الخاصة. الموت الذي يحسّ به وقد اقترب من نقطة حسّاسة في حياته، فيقول إنه الموت يا صديقي. الموت الذي زارني أكثر من مرة وأخذ معه أصدقاء عدّة وذهب.

لا يهمّ ما إذا كان هذا الصديق المُخاطب له وجود ماديّ كأن يكون أحد القراء مثلاً، أم هو صديق وهمي أوجده الكاتب ليبدّد أسطورة المستحيلات الثلاث، لكنّ كلمة صديق أو خليل يمكنها أن تعكس حالة فيزيائية تبدد من شعور الوحدة. الوحدة التي لا تملك إلا أن تتحدث عن صاحبها خاصة وهو يواجه ورقة الكتابة التي هي، في حدّ ذاتها، أكثر المواجهات عزلة.

لقد زرع الكاتب أسئلته ومضى، لكنه لم يشأ أن يفعل ذلك من دون صديق لأن الأسئلة تأكلنا إذا لم نجد من نقتسمها معه.

* * *

عندما تنجح محاولات الكاتب أخيراً أو مواهبه في نقل أمه إلى مستشفى قريب منه ونتنفس الصعداء متمتمين بيننا وبين أنفسنا آن للرجل أن يرتاح قليلاً، يلكزنا الابن العاق في الخاصرة، مستكثراً علينا الراحة. من قال أنه يكتب لنرتاح؟

ألا يجوز أنه يكتب كي يرتاح هو من مشقة هذه الرحلة الطويلة التي امتدت أفقياً بين خورفكان وأبوظبي، وحفرت نفسها رأسياً في أعماقه؟

لقد انتهز الكاتب فرصة اقتراح أحد الأطباء الذي يقول إنه إذا كان يأمل بتحسن طفيف في حال والدته عليه أن ينعش ذاكرتها ويتبادل معها أحاديث ماضيها ويدخلها في بطولة الحياة التي كانت، وبدلاً من أن يخص والدته فقط بأحاديث الحياة التي يخلقها لسانه إذا به يطالبنا جميعاً بأن نسمع ولو قليلاً من تراجيديا هذه الحياة، لأنّ ما يقوله يخصنا أيضاً، إذ يتولد تعاطف عميق مع التعبير ذاته فنشعر أننا مستفيدون كما يقول غاستون باشلار.

نعم، لقد نجح الابن (هل نقول المكفّر عن عقوقه؟) في الفوز بورقة النقل، لكن هذا الفوز المنهك تزامن مع ما يعدّها المصادفة الأسوأ في حياته إذ جاء في وقت انتهاء عقد شقته السكنية، الأمر الذي جعله يشرع في البحث عن فيلا تستطيع الأم أن تمكث فيها عند خروجها من المستشفى، ثم لحقتها مصادفة أخرى أكثر تعقيداً يطلعنا عليها الكاتب في نهاية النص، وهي تزامن ذلك مع انفصاله عن زوجته.

إن اجتماع مثل هذه المصادفات يبدو أشد من وطأة تلك اللعنات التي كان يتساءل عنها وهي تلاحقه بأعينها عندما كان وحيداً في غرفة أمه هناك. إنّ المصائب التي يسمّيها ربما من باب تدليلها مصادفات تجسدت هنا بأبعادها الثلاثة حتى وهو يجلس الآن في الصالة المتوفرة له من كل تلك الفيلا التي انتقل إليها كي يستطع المشي على القاع الذي ملأ طفولته بالأشواك والأعشاب فيما يسمع من مكان ما من الفيلا تلك الصرخات التي تطلقها أمه.

هل يكتب أحمد راشد ثاني هذا النصّ ليضع نوعاً من النظام للحياة المرتبكة من فرط إصابتها بأعين اللعنات؟ أو لهذه المرحلة من الحياة على الأقل؟

يقول الكاتب قبيل نهاية ورقة السرير، وكأنه يطلعنا على مبرره الأكبر من وراء هذا الحكي والتداعيات، وقد استعاد نبرة الشاعر، بعد أن أفرغ بعض ذاكرته في أكياس وقتنا، حين أفعل ذلك، فإن أمي ستعيش، ستعيش من الحياة التي يخلقها لساني، وإنني حين أفعل وأمارس هذا فإنني كذلك أستعيد العيش الوارق في الموت بهذه الحياة، موتي يصبح أغنى وأخصب، يشبه الحديقة المفتوحة على آخر أحداقها لفراشات الحلم.

لقد بدأ صوت السارد يخفت تدريجياً مسلماً نبرته لحلم الشاعر، وقد آن لهذا الجزء من السيرة أن يتوقف هنا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"