الناقد السعودي د. سعد البازعي لـ”الخليج”: قصيدة النثر مكتوبة للنخبة ومعزولة عن القارئ العادي

04:48 صباحا
قراءة 9 دقائق

في السياق الغربي شاعت العديد من التيارات والمقاربات النقدية، مثل النقد الشكلاني والدراسات الثقافية، والنقد الواقعي، والخطاب الاستعماري وما بعد الاستعماري، والبطريركية والنقد النسوي وغيرها وكلها تيارات نجد ما يمثلها في الوطن العربي، والذي تتوزع خريطة النقد الأدبي فيه بين هذه التيارات وما يقابلها من تيارات أخرى تتمسك بالموروث النقدي كمعبر ذاتي وأصيل عن هوية الأمة وثقافتها بالإضافة إلى اتجاهات أخرى تدعو إلى التوفيق بين الموروث والوافد ومحاولات للخروج من تلك الإشكالية والدعوة إلى تجاوز طرفيها معاً بما يعبر عن تنوع وثراء الواقع العربي المعاصر، ولكن قد يرى البعض صعوبة في عملية التجاوز السابق الإشارة إليها، فربما أدت إلى طمس الثقافة الذاتية وتشويهها أو العزلة عما يدور في العالم المعاصر.

في هذا الحوار الذي أجريناه مع الناقد السعودي الدكتور سعد البازعي مدرس الأدب المقارن في جامعة الملك سعود ورئيس النادي الأدبي في الرياض يستعرض البازعي خريطة النقد في الوطن العربي وإشكالياته الرئيسية، وهو ينتمي إلى تلك المحاولات التي تسعى إلى الخروج من إشكالية الموروث والوافد في مجالات النقد الأدبي عبر ما يسميه بالتأصيل وهو محاولة يرى بداياتها لدى الناقد شكري عياد، ولم يلتفت إليها أحد حتى الآن، فالتأصيل كمفهوم مستمد من مصطلح علم الأصول الإسلامي يستخدمه البازعي بمعنى الاستفادة من المناهج الغربية ومحاولة تأصيل جوانبها التي تتفق مع روح الثقافة العربية في بيئتنا المحلية بحيث تتحول إلى تراث ذاتي لا يستدعي النفور أو القلق أو كما يقول د. البازعي أن تمتلك القدرة على المثاقفة يعني أن يصير القادم أصيلاً ويمكن هضمه واستيعابه لا أن نظل نعاني الخوف والغربة تجاهه أبد الدهر، وهي آراء وأفكار استعرضناها مع البازعي في هذا الحوار.

في البداية كيف ترى خريطة النقد الأدبي في الوطن العربي؟

خريطة النقد الأدبي في الوطن العربي معقدة جداً، ومن الصعب حصرها في اتجاهات محددة وواضحة، ويدور الحديث دائماً عن تأثر النقاد العرب بالنقد الغربي ومدارسه الأدبية والفلسفية في مقابل قطاع آخر من النقاد مازال يتكئ على الموروث النقدي، ويحاول أن يجد له أرضية عصرية والجميع يبحثون عن شخصية مميزة للنقد الأدبي الحديث في الوطن العربي، والسؤال هو كيف يمكن الوصول إلى هذه الحالة؟ هناك اسماء مؤثرة ولكن من الصعب الحديث عن مدارس نقدية، ويبدو لي أنه حتى الآن لم ينجح النقاد العرب في تمثيل النقد الغربي، وجميع محاولاتهم لم تصل إلى المستوى المطلوب من النضج الفني والأدبي، فنجد أحياناً أحد النقاد يحمل لواء تيار نقدي ما ويستطيع إنتاج معالم مميزة لأسلوبه النقدي، ولكنه وبفعل العزلة وسيادة الفردية لا يستطيع الاستمرار في ناقد لاحق بحيث يتحقق التراكم المطلوب، فضلاً عما تفتقر إليه هذه الاتجاهات إلى ما يميزها عما يقابلها في الغرب، فالنقاد العرب يحاولون قدر الإمكان أن يكونوا تلامذة مخلصين للغرب ولم أجد في قراءتي للخريطة النقدية العربية الا ناقداً واحداً يشعر بالقلق في محاولته تمثيل وتأصيل التجربة النقدية الغربية في التربة العربية وهو الدكتور شكري عياد ولا أستطيع تجاهل العديد من الإنجازات النقدية الأخرى، ولكنها تبقى في النهاية جهوداً فردية تعجز عن تشكيل خطوط رئيسية في النقد العربي المعاصر بحيث تنسجم مع توجهات الثقافة العربية بشكل عام، لأن النقد في نهاية الأمر هو المعبر الحقيقي عن روح الثقافة.

في هذا الإطار كيف تقرأ تجربة شكري عياد النقدية؟

أدهشني شكري عياد عندما قرأت كتبه، وجدت لديه ذلك القلق المحفز على إنتاج تجربة أصيلة، حيث حاول في كل إبداعاته أن يؤصل للمفاهيم والاتجاهات النقدية المعاصرة، والتأصيل عنده مفهوم معقد ومهم ولا يقصد به توجه النقد الغربي المعاصر ليواكب أو يلائم البيئة العربية، وإنما يحاول تجاوز إشكالية التوفيق بين الموروث النقدي والمعطى الحضاري القادم من الآخر بحيث يكون الناتج مزيجاً فريداً من الحضارتين، ومن ناحية أخرى نستطيع رصد القلق المهيمن على عياد طوال حياته، فعندما تبنى اتجاهات نقدية ما في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، استطاع ان يراجع نفسه في الفترة اللاحقة ويتبنى اتجاهات أخرى وهي شجاعة نادراً ما نجدها عند الكثير من المثقفين العرب الذين يتمسكون طوال حيواتهم بآراء وثوقية قد يتجاوزها الزمن، وللأسف ظلت تجربة عياد فردية ولم يتبناها أحد من الأجيال اللاحقة، وأعتقد أن دراستها يمكن أن تطرح أسئلة عدة فضلاً عما نأخذه منها من قلق يدفع إلى المساءلة والإبداع.

ولكن ألا ترى أن التجربة النقدية تتسم بالعالمية وتتجاوز الاختلافات الثقافية؟

هذه الرؤية يعبر عنها قطاع كبير من النقاد العرب، فالنقد وفقاً لهم مثل الفكر يمثل تراثاً إنسانياً عالمياً ولا ينبغي أن يقال هناك نقد غربي ونقد شرقي، ونقد هندي.. إلخ وأبرز حاملي لواء هذا التيار الدكتور جابر عصفور، وهؤلاء يؤصلون لما يرون أنه عالمية النقد، مع انني أعتقد أن هذه العالمية مجرد وهم كبير لأن هناك شخصية حضارية مميزة لكل ثقافة، وهي لا تعني بالضرورة العزلة أو القطيعة المعرفية مع الآخر، وإنما تؤكد أن لكل بيئة ثقافية مشكلاتها وسماتها الخاصة، وينبغي للنقد أن يعبر عنها كالأدب تماماً، فلا يمكن القول ان نجيب محفوظ صورة مستنسخة من ديكنز أو هيمنجواي وإنما كتب محفوظ الرواية الحديثة ليعبر عن البيئة والثقافة المصرية.

ما أبرز مناطق النجاح أو الإسهامات الأساسية للنقد في السعودية؟

تتمثل أبرز مناطق النجاح في محاولة استنطاق التجربة الإبداعية المحلية في السعودية ومحاولة التعرف إلى سماتها، حيث توجد دراسات جيدة للرواية والشعر والقصة القصيرة، بالإضافة إلى أن الاتجاهات النقدية في السعودية نجحت في إدخال المدارس النقدية الحديثة وعملت على نشرها بين شباب النقاد، وككل بلدان الوطن العربي تحتوي خريطة النقد في السعودية على قطاع من النقاد يرفضون الحداثة والتجديد ويرون أن هذا التوجه سيؤدي إلى ذوبان الهوية ومسخ للشخصية المحلية، وهؤلاء يصدرون في الغالب عن ضعف في الاطلاع على المدارس النقدية الحديثة ولا يملكون أدوات المثقافة النقدية.

وكيف تفسر ذلك الانتشار الملحوظ لإبداعات روائية سعودية في السنوات القليلة الماضية؟

في السنوات الأخيرة توجهت الكثير من الأقلام الأدبية في السعودية إلى كتابة الرواية وهي ظاهرة تدل على الانتشار المتسارع للمدنية في السعودية حالياً فالرواية بنت المدنية، وهي كشكل أدبي تتعدد شخوصه وأجواؤه وأحداثه وتمثل انعكاساً مباشراً لتلك البيئة الجديدة ومحاولة فهمها والتعبير عنها، ولكن هذا الإنتاج الكثيف أفرز محاولات تتسلق السلم الروائي فكثير من هذه الروايات الجديدة تتعمد الإثارة الحسية رغبة في الانتشار وتحقيق المكاسب المادية والمعنوية، وهناك سمة لافتة أيضاً تتمثل في دخول المرأة بشكل قوي في الإبداع الروائي، وبعض هذه التجارب النسائية رائعة وبعضها يتسلق أيضاً الشكل الروائي للاستفادة من هذه الفورة الإبداعية، ولكنني أعتقد أنها ظاهرة إيجابية ستصحح من مسارها مرور الوقت وستفرز تجلياتها الرائعة خاصة وأن التطورات الاجتماعية أصبحت تتجاوز تلك الذاتية المنتجة للشعر.

إذن فهل تتفق مع مقولة أن الرواية أصبحت ديوان العرب المعاصر؟

أعتقد أن الشعر لم يفقد مكانته حتى الآن ولكني أرى أن الرواية أصبحت المنتج الأدبي الرئيسي في الوطن العربي الآن، وعندما أتحدث عن الشعر في هذا السياق لا أقصد قصيدة النثر، فهي بدورها ابنة المدنية فبودلير وغيره انتجوها للتعبير عن مشكلات المدنية، وهي مؤشر على أن هناك جانباً من الحياة المعاصرة يتطلب شكلاً شعرياً يحتفي بالتفاصيل والتجارب اليومية المهمشة ويستنطق الجماليات الكامنة في ما لا يلتفت إليه الناس وما يرفضونه احياناً، وقصيدة النثر تضطلع بهذا الجانب ولكنها بعكس الرواية مكتوبة للنخبة معزولة عن الشارع وعن القارئ العادي وهنا تنشأ إشكالياتها العديدة والجدل الذي لا ينتهي حولها.

وهل تعتقد أن النقد يقوم بالدور المطلوب منه الآن من رصد واكتشاف الإبداعات الجديدة وتقديمها إلى القارئ؟

شغل النقاد العرب لسنوات طويلة بتبنى مناهج نقدية تقوم على التحليل السيميائي أو البنيوي أو النفساني بعيداً عن الحكم والتقييم على التجارب الإبداعية، وهي وظيفة النقد الأساسية، وتحت بند الدراسة الأكاديمية التي تتوخى العلمية والموضوعية ابتعد النقد العربي المعاصر عن إصدار الأحكام القيمية والجمالية بل وادعى البعض أن مجرد توجه الناقد إلى تحليل عمل ما هو اعتراف ضمني بقيمة هذا العمل وعبر إبداعات نصوص نقدية ربما تتميز بالصعوبة أحياناً والغموض دائماً وأصبحنا نواجه كارثة حقيقية حيث اصبح النقد بعيداً عن القارئ غير المدرب على اكتشاف مناطق الجمال في النص الأدبي فضلاً عن فك رموزه ودلالته. إن وظيفة النقد الغائبة تتمثل في ضرورة العودة إلى أدواره التنويرية والتعليمية وبتبني مواقف قيمية تحكم على أي عمل بالجودة أو الرداءة.

ما رأيك في توجه البعض إلى النهج التكاملي: أي قراءة النص الأدبي عبر أكثر من منهج باعتبار أن استخدام منهج واحد في دراسة النص الأدبي لا يتيح استنطاقه بالكامل فضلاً عما ينتجه من شعور خفي يهيمن على الناقد ويتمثل في امتلاك الحقيقة المطلقة؟

أعتقد أن هذا وهم لأنه مبني على الاعتقاد بأن المنهج معضول عن خلفياته الفلسفية، فكل منهج نقدي له رؤية فلسفية يقوم عليها، فكيف نقول مثلاً ان هناك ناقداً يتبنى المنهج الشكلاني والماركسي معاً، فالناقد الشكلاني عندما يشرح القصيدة معزولة عن سياقاتها الاجتماعية فإنه يصدر عن رؤية للعالم تذهب إلى أن الفن معزول عن المجتمع فكيف نمزج بين هذه الرؤية مع توجه آخر يرى أن المؤثرات السياسية والاجتماعية لها الكلمة الفصل في الفن، نحن أمام منهجين على طرفي نقيض، فكيف نجمع بينهما ولكننا نستطيع الاجتهاد لصياغة مناهج جديدة تستفيد من المناهج الموجودة، ولكن لا تمزج بينها بطريقة اعتباطية.

في الكتاب المشترك لك مع الدكتور ميجان الرويلي بعنوان دليل الناقد الأدبي هناك العديد من المصطلحات النقدية الجديدة على فضاءات النقد الأدبي في الوطن العربي، فما الذي تضيفه تلك المصطلحات إلى القاموس النقدي؟

هذا الكتاب يمثل محاولة لإيجاد ثقافة نقدية جادة عبر التعريف الدقيق بالاتجاهات والمصطلحات النقدية المعاصرة مع الكشف عن جذورها الفلسفية إضافة إلى محاولة البحث عن السبل التي يمكن للثقافة العربية من خلالها ان تستفيد من هذه التيارات والمدارس، على نحو يكسب الثقافة العربية حيوية وقدرة على المثقافة النقدية، عبر إضافة مصطلحات مستمدة من الموروث النقدي مع تطعيمها بالمنجز الثقافي الغربي، ومن أبرز تلك المصطلحات: مصطلح التأصيل وهو مستمد من علم الأصول في الموروث الإسلامي، حيث سعى المسلمون في عصر التدوين إلى البحث عن جوهر الأشياء وعللها في علم أطلقوا عليه علم الأصول، ونطمح في الطبعات الجديدة من الكتاب ليس إلى تقديم مصطلحات جديدة فحسب، وإنما نسعى إلى تأصيل جوانب ثقافية لدى الآخر قد تكون أقرب إلى الواقع العربي بمعنى أن يصير القادم أصيلاً ويعبر عن جزء أساسي من مكوناتنا الثقافية لا أن يظل غريباً ومرفوضاً.

ولكن ألا ترى أن هذه المصطلحات والتيارات تعتمد على نظريات تمثل بدورها إفرازاً لواقع آخر قد يختلف تماماً عن واقعنا العربي؟

لإدوارد سعيد مقال بعنوان النظرية المهاجرة يتحدث فيه عن مفاهيم نقدية نشأت وازدهرت في أماكن معينة داخل أوروبا، وعندما انتقلت إلى أماكن أخرى داخل القارة نفسها أخذت شكلاً آخر يعبر عن البيئة الجديدة وخصوصيتها، فما بالنا عندما تنتقل هذه المفاهيم إلينا، فنحن نستطيع أن نأخذ من النقد النسوي مثلاً بعض الجوانب التي تسهم في تقدم المرأة العربية، ولكننا لا نملك تبني النظرية النسوية بالكامل، فهناك جوانب أخرى منها تتناقض بصورة كلية مع الثقافة العربية الإسلامية.

أبراج عاجية

النقد الانطباعي يختلف عن النقد الصحافي، وكثيراً ما نخلط بينهما، فالنقد الانطباعي يقوم على تجربة ذاتية للناقد يستوعب من خلالها أدوات ومناهج شتى ويفرض ذوقه الخاص عليها، أما النقد الصحافي فهو يعبر عن توجه ما لو تمكن الناقد الصحافي من أدواته وتقنياته، والمشكلة أننا أصبحنا نعاني من عزلة شديدة بين النقد الأكاديمي والنقد الصحافي، وآمل أن يتخلى النقد الأكاديمي عن أبراجه العاجية وأن يسعى النقد الصحافي إلى تطوير أدواته العلمية، فعندما يلتقيان سيكون القارئ هو المستفيد الأول من تلك اللغة الوسطى التي ستجمعهما، وأتصور أن النقد الأكاديمي إذا ظل أسيراً لرؤيته النخبوية سيتحول مع مرور الوقت إلى أشياء عسيرة على فهم من أنتجوها.

تراكم كمي

أستطيع القول ان النقد في السعودية تفوق على الإبداع، فهناك إنتاج نقدي لا بأس بها خاصة مع جيل مرحلة الثمانينات من القرن الماضي. وعلى الرغم من سيادة مشكلات النقد نفسها في الوطن العربي، إلا أن هناك تراكماً كبيراً لإسهامات نقدية سعودية وأقصد بالتراكم الكمي وليس الكيفي، وقبل عامين عقدنا الدورة الأولى من ملتقى الرياض للنقد الأدبي وناقشنا فيها التجارب النقدية التأسيسية، وفي الدورة التي ستعقد هذا العام سنناقش التجربة النقدية المعاصرة، وهذا الكم من الأوراق البحثية يؤكد أن النقد السعودي جدير بالتأمل والدراسة ومحاولة الحكم بمعنى التعرف إلى شخصيته وإبراز مناطق النجاح والفشل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"