البشير.. إلى «الجنائية الدولية»!

03:16 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. أيمن شبانة *

في الثاني عشر من فبراير/شباط 2020 أعلن محمد الحسن التعايشي عضو وفد المجلس السيادي الانتقالي بالسودان، قبول المجلس بتسليم الرئيس السابق عمر البشير وواحد وخمسين من أعوانه إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وذلك لمحاسبتهم على ما اقترفوه من جرائم بحق الشعب السوداني في دارفور، أدت لمقتل 300 ألف شخص، معظمهم من النساء والأطفال، وتشريد نحو 2,5 مليون من السكان.
أثار هذا الإعلان جدلاً عارماً، بين من يشكك في صدق نوايا الإدارة الحالية في القيام بتلك الخطوة، وجدواها بالنسبة لإحلال السلام، والانتقال نحو النظام الجديد، في مقابل تيار آخر يثمن هذا التوجه، ويعتبره شرطاً لازماً لتحقيق العدل بعد سنوات طويلة من الانتظار.

عراقيل

جاء هذا الإعلان خلال مباحثات السلام التي أجراها وفد المجلس السيادي السوداني مع ممثلين لحركات المعارضة المسلحة في جوبا عاصمة جنوب السودان. وقد اعتبره البعض ضرورة تفرضها المعطيات المرتبطة بمنظومة العدل بالبلاد، فالنزاع في دارفور وما ارتبط به من انتهاكات لحقوق الإنسان يعود إلى العام 2003، بينما تأخر إدراج قانون الإرهاب بالسودان ضمن منظومة العدل حتى العام 2010، وهو ما قد يسمح بوجود ثغرات قانونية عديدة، ويثير جدلاً قانونياً لا يصب في اتجاه تحقيق العدالة بالشكل المطلوب.
كما أن سيطرة عناصر الإخوان المسلمين على النظام القضائي بالسودان، سوف تتيح الفرصة للرئيس السابق وأعوانه الإفلات من العقاب. وقد تبدت المؤشرات على ذلك بالفعل خلال المحاكمات الصورية التي جرت ضد رموز النظام السابق بعد الثورة، ومنها محاكمة البشير نفسه في قضايا تتعلق بالمال العام.
فيما يؤكد المؤيدون لتسليم البشير اطمئنانهم إلى حياد ونزاهة المحكمة الجنائية الدولية، وقدرتها على تقديم الأدلة الدامغة على إدانة المتهمين.

العدل والإنصاف

يضاف لما سبق أن محاكمة المتهمين بالداخل سوف تتطلب تجهيزات أمنية ومالية ولوجستية تنوء بها قدرات السودان حالياً، في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها البلاد. وبالتالي فإن إحالة المتهمين للمحكمة الجنائية سوف يعفي السودان من تحمل أعباء المحاكمات، ويضع حداً للغبن الاجتماعي، ويقضي على ظاهرة الإفلات من العقاب، ويحقق العدل والإنصاف للضحايا، ويدفعهم إلى المشاركة الإيجابية في بناء النظام الجديد بالبلاد.
في ذات الاتجاه، فإن اضطلاع السلطة الانتقالية الحالية بأمر هذه المحاكمات سوف يصرف انتباهها عن الملفات الأخرى ذات الأولوية، والتي تم النص عليها في الوثيقة الدستورية الصادرة في أغسطس/آب 2019، وأهمها إحلال السلام، وإصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية، وصياغة الدستور والإعداد للانتخابات. لذا اعتبر هؤلاء أن تسليم المتهمين إلى المحكمة الجنائية يعتبر شرطاً لازماً لضمان الانتقال السلمي إلى نظام مدني جديد، وقطع الطريق على رموز النظام السابق للعودة لممارسة النشاط السياسي، أو قيادة الثورة المضادة ضد كيانات الحكم الانتقالي.
في المقابل، شكك البعض في تسليم البشير، مؤكدين أن الإعلان عن محاكمته يأتي بمثابة تكتيك أو مناورة مدفوعة بثلاثة عوامل على الأقل هي: الضغوط التي تمارسها حركات المعارضة المسلحة، وعلى رأسها الجبهة الثورية، للمطالبة بتسليم البشير وأعوانه للمحكمة الجنائية، حيث اعتبرت الجبهة ذلك بمثابة الخط الأحمر الذي لا يمكن التراجع عنه. وهو ما أيدته أغلب عناصر قوى الحرية والتغيير، خاصة فئة الشباب، التي ترى في تسليم البشير مؤشراً قوياً على مصداقية الإدارة الحالية في مواصلة إجراءات تفكيك نظام ودولة الإنقاذ الوطني.

لائحة الإرهاب

يتمثل العامل الثاني في السعي لمغازلة الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي، وذلك بإثبات جدية السودان في احترام حقوق الإنسان، ونبذ الإرهاب والتعاون مع الجهود العالمية لمكافحته. وهو ما قد يدفع واشنطن للتفكير ملياً في رفع اسم السودان من اللائحة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، والتي تم إدراجه عليها منذ العام 1997، حيث إن استمرار السودان ضمن تلك اللائحة يحرمه من الحصول على السلاح، وتلقي المساعدات التنموية والقروض من المؤسسات التمويلية الدولية، وكذا الاستفادة من الإعفاءات الأمريكية المتعلقة بالديون الخارجية.
أما العامل الثالث، وهو الأهم، فيتمثل في رغبة المجلس السيادي في مواجهة الأزمة السياسية التي تعرض لها مؤخراً، بعد الكشف عن اللقاء الذي جمع رئيسه الفريق أول عبد الفتاح البرهان برئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو في أوغندا، وهو اللقاء الذي لقي استهجاناً ورفضاً شعبياً ورسمياً واسع النطاق. إذ ثارت التساؤلات بشأن طبيعة هذا اللقاء، وما إذا كان يمثل اتجاهاً نحو التطبيع مع الكيان «الإسرائيلي»، والتمهيد لتبادل العلاقات الدبلوماسية معها، على نحو ما فعلت تشاد من قبل. مؤكدين الرفض القاطع لأي علاقة معها، تحت أي ذريعة، حتى لو كان المبرر هو إيجاد مدخل جديد إلى واشنطن، والمؤسسات الدولية المانحة.
لذا يرى البعض أن تصريحات التعايشي هي مجرد تصريحات صحفية، لن ترقى إلى اتخاذ إجراءات فعلية لإنفاذها، خاصة أن ذلك قد يفتح الباب أمام تجديد الاتهامات إلى آخرين.
كما أن الإدارة الحالية قد تواجه احتمال ثورة مضادة قد يقودها أنصار البشير ورموز النظام السابق من «الإخوان» إذا ما تم تسليمه بالفعل. وهي أيضاً لا تملك رفاهية الدخول في معارك سياسية وإعلامية جانبية.

ردود الأفعال

في خضم هذا الجدل الداخلي، تراوحت ردود الأفعال الدولية والإقليمية بين الترحيب الأمريكي والأوروبي، والصمت الرسمي على المستويين العربي والإفريقي، خاصة أن الاتحاد الإفريقي كان قد أصدر قراراً خلال قمته الطارئة في مايو/أيار 2013، دعا خلاله إلى دراسة الانسحاب الجماعي للدول الإفريقية من المحكمة، وعدم التعاون معها، في ظل رفض ثلاثة من الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن (الولايات المتحدة وروسيا والصين) الانضمام للنظام الأساسي للمحكمة.
من جانبها، أخذت المحكمة الجنائية الدولية تصريحات التعايشي على محمل الجد، حيث أوفدت فريقاً تابعاً لها إلى الخرطوم لبحث ترتيبات تسليم المتهمين إليها.
وفي تصوري أن الإدارة السودانية سوف تخرج من هذا المأزق بالتأكيد على إخضاع المتهمين لمحاكمات عادلة ونزيهة، من خلال المؤسسات القضائية الوطنية، مع إبداء الاستعداد للتعاون مع المحكمة الجنائية والاستفادة من خبراتها في هذا الشأن، وبحث إمكانية حضور ممثلين للمحكمة الجنائية خلال إجراء المحاكمات بالسودان، وهو ما قد يمثل حلاً وسطاً ومتوازناً في مواجهة متطلبات استكمال الثورة وتخفيف الضغوط الخارجية.

* مدير مركز البحوث الإفريقية جامعة القاهرة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"