مها غانم: حررت نفسي من قيود الاعاقة

روائية سورية بدأت مشوارها بشهادة محو الأمية
12:32 مساء
قراءة 6 دقائق

مها وهيب غانم روائية وقاصة سورية مبدعة، رغم إعاقتها، قدمت العديد من الأعمال المتميزة، منها ما سبق تخرجها في جامعة تشرين، حيث كانت تدرس الأدب العربي، وفيها خرج إلى النور بعد ذلك . التقيناها في هذه السطور لتروي حكايتها مع الإعاقة والنجاح .

تقول مها: كنت أدرج كحجلة صغيرة، حين أصبت فجأة بارتفاع في درجة الحرارة، بحسب رواية أمي لي، وكان ذلك في أواخر السنة الأولى من عمري . أخذت إلى طبيب مشهود له بمقدرته العلاجية، على مستوى المحافظة، فقام بإعطائي حقنة أسميها الحقنة العبقرية نظراً لنتائجها التي حولت جسدي، من جسد مفعم بالحياة والحيوية، إلى كتلة ساكنة من اللحم، لم يبق فيها ما يدل على الحياة سوى أنفاس متقطعة ونبضات قلب تصر على رفضها للقبر . بعد ثلاث سنوات تغلبت محبة الأهل على الفقر والجهل، فسافروا بي إلى لبنان .

في مشفى عاليه شخص الكادر الطبي العربي الأجنبي الحالة على أنها شلل سببته حقنة أعطيت بالخطأ وبدافع الرحمة، أو ربما شرف المهنة، تحين طبيب لبناني عجوز فرصة انشغال زملائه ليقدم لأمي نصيحة بالعودة، والاكتفاء بالعلاج الطبيعي الطريقة الوحيدة المفيدة في مثل حالتي . تضيف مها: تعلقت أمي بتلك النصيحة، وبكل جوارحها عملت على تطبيق تعليمات الطبيب، واستطاعت بيديها الصبورتين، الحنونتين أن تعيد إلى جسدي الحياة شيئاً فشيئاً، تدرج الأمر من حركة إصبع، إلى حركة يد، ثم القدرة على الجلوس، فالزحف والانتقال من مكان لآخر بالاعتماد على يدي، استمر الأمر هكذا حتى سن الثالثة عشرة . عشت طفولة هادئة، متفاعلة مع حالتي كحالة طبيعية، دائماً وجدت الأدوات الخاصة التي تمكنني من الاتصال مع الآخرين، كان الأطفال من الأقارب والجيران يأتون ليلعبوا برفقتي، وأستطيع القول من خلال تجربتي إن هناك فرقاً كبيراً بين أن تولد، أو تصاب بالمرض وأنت طفل وبين أن تتعرض له في سن متأخرة، ففي الحالة الأولى إذا ما تركت حراً، تعيش متفاعلاً متقبلاً لحالتك، وإلا فإن إحساساً بالرفض سيدفعك إلى اليأس، والعزلة، أو المقاومة إذا وجدت تلك الإرادة، وهنا تبرز أهمية الدائرة الأولى وهي الأسرة وعلاقتها بالمريض ومدى تقبلها وتفاعلها مع الحالة .

في بداية المراهقة برزت تلك المقارنات، والأسئلة وكان أولها: لماذا لا أذهب إلى المدرسة مع أني أحفظ الدروس والأناشيد بطريقة أفضل من أخي الذي يصغرني بسنتين . وجاء الجواب فات الأوان وكان صادماً ومبهما بالنسبة لي . لا أستطيع القول إنني كنت على مستوى من الوعي تجعلني أفكر بقيمة الدراسة إلا أن هاجس الحرف والقلم بدأ ينغص علي حياتي، ويدفعني للبحث عن سبيل للتعلم، إلى أن أتت الفرصة عندما سمعت عن دورة لمحو الأمية سيقيمها الاتحاد العام النسائي ضمن مشروعه التنموي في القرية .

بعد أخذ ورد مع الأهل استطعت إقناعهم بالسماح لي بالمشاركة فيها كنت صغيرة بين مجموعة من التلاميذ الكبار رجالاً ونساء تعلمت القراءة والكتابة، وحصلت على شهادة محو أمية، كانت سعادتي بها لا توصف لكنها سعادة لم تستمر طويلاً حين علمت بأن كل شيء سينتهي هنا، لم أصدق ذلك، أو ربما رفضته، وأخذت أستفسر إلى أن علمت بما يسمى بالدراسة الحرة، قررت أن أتابع وتقدمت إلى الشهادة الابتدائية نظام حر جاء نجاحي بدرجة ممتاز، وبالتعاون بين الاتحاد النسائي ومديرية التربية منحت فرصة للدراسة الرسمية المرحلة الإعدادية كنت في الرابعة عشرة حين دربني أبي على المشي بعكازين، وهنا بدأت مرحلة جديدة ومختلفة بكل المقاييس العلاقة المباشرة مع الدائرة الثانية المجتمع، سرعان ما كشفت عن تلك الترسبات الموروثة، والقائمة على مجموعة من الأحكام المسبقة التي تنظر إلى الإعاقة على أنها لعنة، خلق الكثير من الحواجز والقيود بينك وبين الآخر، وتلك دعوة واضحة للعزلة، والتقوقع . هكذا في المجتمع الجاهل، المفتقد لأبسط آليات التفهم تجد نفسك أمام خيارين: إما أن تتحول إلى سوبر إنسان فتحاول أن تفهمه، وتتقرب منه، أو أن تروضه وتخلصه من شوائبه وتفرض وجودك عليه، وإما أن تستسلم، وتأوي إلى عزلتك، وخجلك من نفسك ومن الآخر فتندب آلمك وخيبتك ولم أكن لأقف أمام ذلك الوضع .

على صعيد الدراسة شكل تجاوز المرحلة الابتدائية نوعاً من صعوبة التأقلم مع المواد المقررة، تجاوزت ذلك بمزيد من الجهد، وحبي للحرف تحول إلى شغف بالقراءة وكأي مراهق قرأت سلسلة الناجحون، الألغاز، روايات أجاثا كرستي، كوخ العم توم، بائعة الخبز وكانت مجلتا العربي وطبيبك المصدرين الأهم في لفت انتباهي إلى المعرفة بشكلها العام . ظهرت في هذه الأثناء خربشاتي الأولى، وتتعلق بمجملها بالألم الإنساني الحرب، الجوع، الفقر وكنت أخفي تلك الخواطر خشية عليها من النقد أو السخرية . بعد حصولي على الشهادة الإعدادية اضطررت لترك المدرسة إذ لم يكن يوجد في قريتي مدرسة للمرحلة الثانوية، وحالتي لا تسمح لي بالتنقل بوساطة الحافلة .

مرة أخرى كشف المجتمع عن تأخره وعجزه وكان علي أن أقبل، وأن أنتظر ثلاث سنوات حتى يحين وقت التقدم إلى امتحان الشهادة الثانوية . تجاوزت غضبي بوعد قطعته على نفسي بأن أتابع بأية طريقة . مرت تلك السنوات حافلة بالسفر من أجل المعالجة، بالعمليات الجراحية والمطالعة الهادفة، بمعنى أني وقعت في جاذبية المعرفة، تنوعت القراءات الفلسفة، علم الاجتماع، الدين، السياسة، التاريخ، الأدب العربي والعالمي المترجم سحرتني الرواية بشكل خاص قرأت للكثيرين من الكتاب أهمهم عبد الرحمن منيف، ناظم حكمت، هاني الراهب، ايتماتوف، دويستويفسكي وكنت كلما قرأت كتابا شعرت العطش إلى المزيد وانتابني إحساس بأميتي فأندفع إلى القراءة ومازلت حتى هذه اللحظة أحس ذات الإحساس . جاءت تلك اللحظة التي انتظرتها تقدمت لامتحان الشهادة الثانوية الفرع الأدبي وكانت النتيجة جيدة .

اعتقدت أن الحياة بدأت، ولكن المفاجأة كانت أكبر من أي توقع، حين تقدمت إلى المسابقة ورفضت علمت حينها أن القانون لا يسمح بدخول ذوي الاحتياجات الخاصة في سلك التعليم . ضاع الجهد، والطموح والشهادة التي كانت أملاً، صارت عائقاً آخر في كل الأحوال، ورغم ما طرأ من تطور في المجتمع سواء من حيث انتشار الجمعيات الأهلية التي تلعب دوراً أساسياً في مساندة ذوي الاحتياجات الخاصة، أو من حيث المؤسسة الرسمية التي قامت بإنشاء المراكز العلاجية، التعليمية، والتأهيلية وإصدار القوانين التي منحت للمعوقين بعض الحقوق فالأمر ما يزال يحتاج إلى الكثير من الجهد .

في عام 1989 أحببت أن أشرك الآخرين بأفكاري، لأخرجها إلى عالم النور فبدأت نشرها في صحيفة الوحدة وكتبت في ذلك الوقت رواية لا تزال مخطوطة حتى اليوم . لم أكن فكرت بطرح نفسي ككاتبة كنت وما أزال أرى أن الكاتب هو ذلك الشخص الاستثنائي القادر على احتواء عالم بكل تفاصيله والمسألة ليست بهذه السهولة . كان علي أن أصقل موهبتي . أن أتعلم كيف أحب الآخر، وأحسه إلى الحد الذي نصبح كياناً واحداً . هذا ما تمثله كتاباتي، التي لم تك في يوم من الأيام انعكاسا لألم الإعاقة كما يتخيل البعض .

هناك الكثيرون ممن يربطون بين الإعاقة الحالة المرضية وبين الموهبة الإبداع التي تولد بولادة الإنسان مُشكلة تركيبته الخاصة، وهذا الربط غير واقعي إلا بما قد يلامس الشرط الإنساني باعتبار الإنسان كائناً ذا احتياج خاص، حيث تدفعه حاجته الخاصة إلى البحث الدائم والعمل المستمر لإيجاد تلك الصيغة من الحلول التي توصله إلى سعادته المنشودة . على هذا الأساس أشعر بالغبطة حين يلمح أحدهم إليّ أنني ذات احتياج خاص . في هذه النقطة فقط تلتقي الإعاقة بالإبداع . وإلا توجب علينا أن نبحث عن إعاقة لكل مبدع، وبالتالي أن ننكر إبداع مبدع ما لم يسبق له أن أصيب بمرض ما، وهذا يبدو بعيداً عن الواقع .

الآن أستطيع أن أقول أن أحلامي هي أفكاري التي تنتظر أن تتحول إلى روايات، وأقصى تلك الأحلام رواية تترك أثرها في عالم الأدب الجميل .

أعيش في مجتمع معوق

شكلت سنوات الدراسة الجامعية انعطافة مهمة، في حياة مها غانم تقول عنها: فيما يخص العلاقة بيني وبين إعاقتي وبنتيجة الوعي، والاتصال بالآخر السفر تعلمت كيف أحترم الإنسان الموجود داخلي، لطالما الإنسان في النهاية عقل وإرادة، وليس يداً، أو رجلاً، حررت نفسي من قيود خجل الإعاقة التي حاول المجتمع تقييدي بها، لم يتغير المجتمع والمقارنات بين مجتمعي والمجتمعات الأخرى كشفت عن صور غاية في القتامة، فأنا أعيش في مجتمع معوق، يلزمه الكثير ليرتقي إلى مستوى مسؤوليته عن إنسانه . أحسست بالمسؤولية تجاهه، تعاملت معه على أنه إنسان بأمزجة متقلبة وعلي أن أستوعبه . خسارتي لدراسة الحقوق لم يكن في مدينة اللاذقية، لم تؤثر في إصراري في متابعة الدراسة والسعي لإيجاد عمل يقيني عن الحاجة إلى الآخرين . سجلت في كلية الآداب وقسم اللغة العربية، وتخرجت إجازة في اللغة العربية في عام 1996 .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"