الحرف العربي من الحالة الدلالية إلى الحالة الجمالية

مواقع الاشتباك بين الخطاط والفنان التشكيلي
04:37 صباحا
قراءة 7 دقائق

يعتبر فن الخط العربي أحد أبرز السمات الثقافية التي تحاول لعب دور إحيائي واستشرافي من خلال علاقته مع الفنون المختلفة، باعتباره مادة تنبض بالحياة يمكن تداولها كمفردة تشكيلية معاصرة، وأيضا بوصفه يمثل موضوعاً لاشتغال الخطاطين والفنانين المسلمين في مختلف العصور عبر حوارهم الإبداعي الإنساني مع الفنون الأخرى. وإذا كان هذا الحامل اللغوي لا يزال مجال تجاذب بين الفنانين والنقاد إلى يومنا هذا، فإن ذلك لا ينفي ضرورته بوصفه شحنة مرئية لها حضورها في المحترفات العربية.

في هذا السياق سعت تجربة الحروفيين في التشكيل العربي والإسلامي إلى الخروج من الدائرة الوظيفية التقليدية المألوفة إلى الدائرة الجمالية المنفتحة على الفضاءات الأوسع من خلال أبعاد خارجة عن التنميط وبهامش واسع من الحرية، يتيح للمشتغلين في هذا المجال استلهام روح العصر. غير أن الكثير من نقاط التقاطع والتعالق بين الخطاط والفنان التشكيلي لا يزال محل نقاش بين المختصين. ولعل بعض مفردات هذا النقاش تتمثل في الدخول إلى مصطلح الحروفية للبحث في حقيقة طروحاته وخلفياته الرؤيوية والجمالية ومداخل مقاربته للفنون بمعناها الأشمل.

ويرى الفنان طلال معلا أن اللوحة الحروفية تواجه اليوم في سياق تطورها، الكثير من الانتقادات والإطراءات بحيث يكاد يتشكل رصيد من الرؤى والتحليلات والنصوص المعنية بهذا الموضوع في مختلف البلدان العربية وخارجها، من الممكن أن يكون قاعدة للدراسة الأكاديمية. هذه الكتابات تنقسم هي الأخرى، كما الفنون الحروفية والخطية، إلى آراء متباينة يتمترس كل منها خلف قناعات ومرجعيات ثقافية يظهر في تضاعيفها التجاذب حينا والحيادية حينا آخر. كما أن بعضها يستوعب آليات التطور الفني والثقافي والحراك النقدي والفكري الإنساني، فيما لا تزال لهجة الانحياز وعدم استيعاب مفردات التحديث، تنسج آراء العديد من الكتاب وبخاصة في الموقف من الآخر وبنية العلاقات المستجدة والتفاعلية مع طروحات الإبداع المعاصر.

تعمل الحروفية على إدخال الخط أو الحروف ضمن بنية المنتج الفني على أسس بصرية من خلال استرجاعات تتراوح بين الاستلهامات التراثية والفهم الجديد لضرورة التغيير، الأمر الذي يزيد من حدة التوتر في الخلافات الفكرية ويجعل الهدف أكثر بعداً وضبابية لتبقى الأمور معلقة بين التواصل والانقطاع في فهم الضرورات الأساسية لحقيقة المنجز الفني باعتباره إبداعاً وكشفاً وتجاوزاً.

في توجه يستند إلى الرؤية التراثية التقليدية، يرى الدكتور إحسان الرباعي أن الفن الإسلامي مصدر خصب وتراث إنساني ثري، استقى منه الفن العربي المعاصر الفكر والأساليب الفنية، حيث جاء كرد فعل للتيارات الغربية والاستغراب في الشكل. وبينما يستند الفنان العربي المعاصر إلى رصيد إنساني حضاري في الفنون الإسلامية يمتد عبر التاريخ، جاءت الفنون الغربية التي تأثر بها الحداثيون في الشكل والاتجاه التجريدي عبر استخدام قواعد التشكيل والنسب الإنسانية في الفن الغربي.

ويضيف الرباعي أن دراسة الفن الإسلامي لا تخضع للمعايير الجمالية للفنون التشخيصية مثل الفنون الإغريقية والمصرية القديمة والرومانية، حيث لم يعبر الفن الإسلامي عن أي شكل من الأشكال المحدودة، بل اتجه إلى المطلق وارتبط بمعايير جمالية في حرية التعبير والبحث عن المثل العليا وقضايا المطلق ومسائل غياب الموضوع. وإذا كانت ثمة حالة استمرارية في شكل الفن وأسلوبه في مرحلة صدر الإسلام، فإن ذلك يرجع إلى الفنانين الذين حافظوا على أصالة فنونهم وتطورها. ثم بدأ الفن الإسلامي في الاستقلال عن الخلفيات الفكرية والفلسفية التي شكلت الفنون الإنسانية السابقة.

البحث عن التميز

ويقول الدكتور الحبيب بيدة، إن إشكالية الفنان العربي في علاقته بالخط العربي، مثلت في ثمانينات القرن الماضي، ركيزة وأساسا للبحث عن حلول لتحقيق هوية تشكيلية في سياق البحث عن التميز الثقافي بالنسبة للأنماط التشكيلية الغربية التي اعتبرها البعض غزوا سينال من الخصوصيات الثقافية الوطنية والقومية. وكانت البدايات في منتصف الستينات عندما انتبه بعض الفنانين إلى ضرورة تحقيق هوية فنية خصوصية ومحلية تندمج مع مفهوم الوطنية والقومية، تحقق نوعا من الفرادة والتميز للفن العربي عن الفن الغربي الذي تطور في الجانب المهنجي.

وكانت نتيجة هذا البحث اللجوء إلى العلامات التراثية التي أثثت زخرفيا المحيط العمراني ومن بينها علامات الخط العربي في اللوحة والنحت والنسيج الحائطي والحفر والخزف الفني. حدث ذلك تقريبا من دون اتفاق مسبق في أغلب الأقطار العربية والإسلامية. من هنا كانت هجرة تلك العلامات الخطية وتنقلها من محمولاتها الأساسية الوظيفية إلى تلك المحمولات الفنية الجديدة.

وحسب الدكتور الحبيب بيدة، فإنه لا يمكن إنكار أهمية ما تحقق على مستوى البحث في هذا الجانب، حتى وإن لم يؤد ذلك البحث إلى تحول معرفي وجمالي عميق، حيث جاء في شكل صدمة خلصت الفن التشكيلي من رتابة التطبيق الآلي الناتج إما عن التقليد المباشر لممارسة فنية وافدة، أو عن الهموم الفردية المنعزلة. من هذا المنطلق، وجدنا أنه للمرة الأولى تُطرح الممارسة الفنية التشكيلية في إطار خطاب تشكيلي يُسائل الحالة الفنية ويستوجب الجدل ويبحث عن أجوبة. وللمرة الأولى يصطبغ الفن التشكيلي كما الفنون الأخرى، بهموم جماعية تتجاوز هموم الفنان الفرد، الأمر الذي دفع المجموعات الوطنية في كل بلد عربي إلى اعتبار الفن التشكيلي شأنا خطيرا ومحددا ليس للذائقة الجمالية فحسب، بل أيضا للوعي الجمعي.

أدى جدل الطرح لسؤال الهوية التي تريد أن تكون حديثة في أصالتها وأصيلة في حداثتها، من خلال التعامل مع العلامات الخطية، إلى نهضة نقدية وفلسفية وجمالية، حيث أسهم ذلك في تحريك سواكن المبدعين والمفكرين العرب في إطار التحولات السريعة التي اجتاحت ولا تزال تجتاح العالم وتعصف بالكيانات الثقافية للدول والمجتمعات. فالهوية تطمح لتكون أصيلة داخل مفردات الحداثة وحداثية داخل مفردات الأصالة، عالمية ومحلية في آن، عالمية في امتداداتها وأبعادها من دون أن تكون معولمة بالمعنى الاحتوائي أو الإقصائي لهذا المصطلح. على هذا الأساس تحركت العلاقة بين الفنان العربي وبين الخط العربي بوصفه ممارسة قديمة حديثة، بحثا عن تحقيق معادلة جاءت جميلة على رغم بعض الشوائب الشكلانية التي كانت نتيجة للاستسهال والابتذال، حيث إنه إلى جانب المبدعين الذين تعاملوا مع العلامة الخطية تعاملا عميقا ومنتجاً للمعرفة التشكيلية وللحالة الجمالية، وجدنا أيضا نوعا من الاستسهال للأشياء التي يدعي أصحابها تعاطفهم من العلامة الخطية، بينما الواقع أن هذا التعاطف لا يعدو أن يكون تحولا من موضع بحث إبداعي إلى موضع تكرار واجترار ماضوي نمطي.

من الممكن أن نتساءل في هذا السياق، عن ماهية دور الفن الذي لا يعبر سوى عن نوع من أنواع الانتماء الميتافيزيقي من خلال مضمون أو محمول دلالي أيديولوجي لا يتجاوز المعنى الزئبقي الهيولي أو الضبابي لهذا الانتماء، في حين أن الفن هو إبداع للمعنى قبل أن يكون تعبيرا عنه.

تجاوز الأيديولوجيا

قد يكون من المهم في اللحظة الراهنة، التفكير في إعادة ترتيب البيت الإبداعي التشكيلي العربي في ما يتعلق بالتعامل مع العلامة الخطية، من خلال إنتاج خطاب حديث أساسه إبداع المعنى من حيث هو تعقلٌ وتفكرٌ، وأن يغوص الفنان العربي غوص الباحث في الأعماق عن اللؤلؤة المفقودة التي تتمم عناصر العقد الموصول بين الخط العربي بوصفه فناً تشكيلياً وبين هجرة هذا الفن في سياق البحث التشكيلي، ليصبح خطا تشكيلياً أو تشكيلاً خطياً، أي تحوله من علامات خطية معبرة عن المعنى الدلالي، إلى علامة خطية مبدعة للمعنى الجمالي، وذلك بتفعيله ليصبح تشكيلاً خالصاً ومخلصاً لدلالته كشكل مفعل ومبدع للجمال الخالص.

من المهم التنويه بالهجرة الأخيرة للخط العربي التي لا يمكن لأحد أن ينكر أهميتها، حيث استطاع الخط من خلال هذه الهجرة أن يتجرد من المعنى لتستقل علاماته بأشكالها الخالصة وتتولد منها إمكانات وطاقات جديدة للتعبير الحسي بفعل التحرر من قيد الشكل والمضمون أو الدال والمدلول، والاندماج في نسيج المادة/ اللون لخلق حالة تشكيلية جديدة لانهائية الحدود، حالة تشكيلية ممكنة التوليد ومنتجة ليس فقط من حيث إمكاناتها الشكلية واللونية والنسيجية في أنساقها البنائية، بل منتجة أيضا لخطاب جمالي جديد. كما لا يمكن إنكار الإنتاجات النقدية والجمالية التي أنجزها الفنانون والمفكرون العرب، والجهود التي بذلوها للإحاطة بظاهرة التعامل مع العلامة الخطية، غير أن ذلك يبقى من دون ما يختزنه هذا التعامل من إمكانات إبداعية جديدة للقيم الجمالية الحسية، وما يمكن أن ينتج عن هذا الإبداع من خطابات نقدية وجمالية تنير الأذهان وتفتح الآفاق أمام عوالم رحبة من الشعور والشعرية في آن. ولا يمكن أن يتحقق هذا التنوير وذلك الفتح إلا من خلال الالتحام بجوهر العلامة لا بما يظهر منها فحسب. إن المحاولة جميلة وصعبة في آن، ولا يستطيع دخولها إلا من امتلك الجرأة على التعمق في ما وراء المرئي والبحث في أغواره وصولا إلى اكتشاف الممكن والحوار مع الشكل باعتباره خلاصة فكر ونتيجة معاناة وجودية إنسانية.

تفكير الشكل

تكتسي مسألة الشكل في الممارسة التشكيلية أهمية قصوى حيث إنه من خلال الأسلوب والشكل يمكن أن يبرز التماسك الداخلي للعمل الفني، وبه تتمكن ذاتية المبدع من التعبير عن تفاصيل هويتها. من خلال المتابعة للاتجاهات الأدبية العربية والإسلامية في الشعر والقصة والرواية والمسرح، وما أنتجته الحركة التشكيلية العربية منذ بداياتها في العصر الحديث حتى الآن، يتبين أن كل بلد عربي أو إسلامي، أنتج مبدعين جعلوا من التشكيل مجالا للتفكير، ومن اللوحة الخطية أو غيرها، فضاء فنيا لرؤية العالم والواقع، حيث جرب هؤلاء الفنانون جميع الاتجاهات التشكيلية العالمية وأدمجوا أكثر من عنصر تراثي في أعمالهم، فمنهم من سقط في توفيقية تسطيحية، ومنهم من نحت لنفسه أسلوباً تشكيلياً متفرداً متجاوزاً به حدود الوطن العربي، ومنهم من اكتفى باجترار تجارب الآخرين، ومنهم أيضا من نهل من المخزون التشكيلي الذي أبدعته المخيلة الشعبية. هذه الحركة التشكيلية طرحت ولا تزال تطرح على النقد الأدبي والفني أسئلة لم يتمكن النقاد بعد من صياغتها بالوضوح والعمق الكافيين. ومع ذلك يبقى استلهام التراث سواء في الخط أو في التشكيل، شرطاً لا بد منه لخلق الجيل الجديد الذي يستمر به الإبداع والتواصل الإبداعي مع الآخر في اتجاه الإحساس بالقيمة الشكلية والطاقة الروحية التي يمكن أن يختزنها وينتجها التفاعل بين التراث والعصر أو بين التشكيل والخط.

وإذا كانت بعض الأعمال الفنية العالمية القديمة قد بقيت حية حتى اليوم من دون أن تفقد من طاقتها شيئاً مثل ملاحم هوميروس ومآسي إسخيلوس وسوفوكليس، فإن ذلك راجع بالدرجة الأولى إلى ارتقائها عن التسجيل المجرد للواقع، إلى إبداع المعنى الفني.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"