جدران «إسرائيل»..موانع زائلة

03:30 صباحا
قراءة 4 دقائق
حلمي موسى

يشكل قطاع غزة مشكلة أمنية وسياسية وديموغرافية شديدة التأثير في «إسرائيل» وحكومتها اليمينية. وتقريباً مارس الاحتلال جميع صنوف التنكيل والقمع ضد القطاع، ليدرك بعدها أن صبر أهل القطاع وعزمهم على نيل حقوقهم بالمقاومة والصمود لا مثيل له. فتحولت القناعة «الإسرائيلية» في التعامل مع القطاع من منطق أن «ما لا يتحقق بالقوة يمكن أن يتحقق بالمزيد منها» إلى منطق المداورة والمزج بين الدفاع والهجوم. وكان أهم نتيجة لذلك لجوء الكيان إلى سياسة إنشاء الجدران الأمنية والفولاذية والأسمنتية على طول قطاع غزة فوق الأرض وتحتها تبعاً لما يتصورونه من تهديد فعلي أو محتمل.
الواقع أن «إسرائيل» دأبت على إحاطة نفسها بجدران أمنية باهظة الكلفة تبعاً لحجم المخاطر الكامنة على الحدود في هذه المنطقة أو تلك. وتعبر هذه الجدران عن أفكار آمن بها قادة الصهيونية الأوائل ونفذ قسماً منها بنيامين نتنياهو صاحب نظرية الأمن المستند إلى «الجدار الفولاذي» والقائم على وجوب تحصين التفوق العسكري الصهيوني والفصل بين «إسرائيل» ومحيطها للحفاظ على أمنها.
وليس صدفة أن أول جدار أمني ذكي أنشئ على طول الحدود مع لبنان، حينما كان لبنان مركز الفعل المقاوم. وقد سبق ذلك إنشاء سياج أمني بدائي على طول بعض مناطق الحدود مع الأردن حينما كان الأردن في نهاية الستينات مركزاً للفعل المقاوم. وكان قطاع غزة لاعتبارات أمنية أول المناطق في الأرض المحتلة التي يقام فيها سياج أمني ذكي قبل أن تقوم «إسرائيل» ببناء الجدار العازل في الضفة الغربية. وبعد ذلك أنشئ سياج أمني ذكي على طول الحدود المصرية من كرم أبو سالم إلى إيلات. وبعد الجدران الأمنية الذكية المتمثلة بسياجات ومعدات مراقبة حديثة فوق الأرض جاء تكتيك المضادات الصاروخية على طريقة منظومة القبة الحديدية لمواجهة المقذوفات قصيرة المدى. وفي مواجهة الأنفاق من قطاع غزة قررت حكومة الاحتلال بتكلفة باهظة إنشاء جدران أسمنتية تحت الأرض بعمق يصل إلى 30 متراً مجهزة أيضاً بمعدات ذكية ومجسات تحت أرضية. ولكن كل هذه المنشآت لم توفر لمستوطني غلاف غزة الأمان المطلوب. فإطلاق الصواريخ بشكل متواتر استمر وتزايدت الانتقادات للجيش وللحكومة اليمينية على حد سواء.
ولم تفلح تهديدات رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ولا تهديدات وزرائه في زيادة الوزن النوعي للعربدة العسكرية «الإسرائيلية» في قطاع غزة، لتشكيل رادع قوي. فقد استمرت العمليات من جهة وتواصلت مسيرات العودة التي كان من أهم مظاهرها تجرؤ مزيد من الشباب الفلسطيني من القطاع على اجتياز الحدود وإرباك الكيان وقادته السياسيين والعسكريين. وطبيعي أنه كان لتجرؤ الشباب الفلسطيني أثمان دفعت من أرواح هؤلاء الشباب ومعاناتهم جراحاً وأسراً، ولكن النتيجة الواضحة أيضاً هي ارتباك جلي ل«إسرائيل» وسياسته تجاه القطاع.
ومؤخراً واستمراراً لسياسة «جدار وراء جدار» قرر الجيش «الإسرائيلي» إنشاء جدار ثان مقابل قطاع غزة في عمق الأرض المغتصبة لحماية مستوطنات غلاف غزة، ولتوفير مزيد من الحماية لمستوطنيها. وبحسب القناة التلفزيونية «الإسرائيلية» الثانية، فإن الجدار الأمني الجديد يشكل حلقة دفاعية ثانية تضاف إلى الجدارين القائمين تحت الأرض وفوقها. وقالت القناة السابعة إن نتنياهو قرر إنشاء الجدار لمنع التسلل من قطاع غزة، وإنه سيكون في البداية بارتفاع 6 أمتار وعلى امتداد 9 كيلومترات. وسيقام الجدار الجديد هذه المرة قبالة شمالي القطاع قرب مستوطنات سديروت وياد مردخاي وصولاً إلى شرقي مدينة غزة. وقد استبقت إنشاء هذا الجدار بإقامة جدار بحري بعمق مئات الأمتار على الشاطئ بين قطاع غزة والأراضي المغتصبة عام 48 لمنع تسلل وحدات كوماندو بحري فلسطينية كما حدث عند استهداف ثكنة «زيكيم» في عام 2014.
وبحسب ما هو واضح فإن الهدف من إنشاء هذا الجدار الجديد تأمين طرق مواصلات وخط سكة حديد قريب من حدود قطاع غزة يصل الجنوب الفلسطيني بمناطق الوسط وتل أبيب. وتعتبر بعض أجزاء هذه المنطقة مكشوفة من قطاع غزة تسهل على المقاومين استهداف مستخدمي هذه الطرق وعرباتهم بصواريخ مضادة للدروع أو بإطلاق نار مباشر من رشاشات. كما أن إنشاء هذه الجدران يقلل من قدرة المقاومين في غزة على مراقبة التحركات في الجانب «الإسرائيلي» ما يوفر لجيش الاحتلال أحياناً فرصاً للمباغتة.
وقد عمدت قوات الاحتلال بعد قصف المقاومة في القطاع لعربة عسكرية بصاروخ كورنيت قبل شهور والتهديد باستهداف قطار يمر بسديروت إلى محاولة إنشاء جدار زراعي يتمثل بزرع عشرات ألوف الأشجار في المناطق المكشوفة. غير أن الوقت الذي تستغرقه الأشجار للنمو واحتمالات تبديد الفكرة جراء حرائق قد تقع أعاد إلى الواجهة فكرة إنشاء جدار أسمنتي في تلك المنطقة. ولم تخف مصادر «إسرائيل» أن الغاية الأساسية من ذلك تأمين المستوطنات من عمليات التسلل الفلسطينية، وتقليص احتمالات الإصابة فيها في أي مواجهة مستقبلية.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن «إسرائيل» التي كثيراً ما تعاملت في الماضي باستخفاف مع المقاومة في قطاع غزة، صارت أكثر جدية في التعامل معها. وتشهد جولات الصراع الأخيرة التي استمرت إحداها 51 يوماً على أن المقاومة في القطاع صارت أكثر قدرة على إيذاء «إسرائيل» من أي وقت مضى. وهذا يدفع «إسرائيل» إلى الحذر في التعاطي معها وتأخذ في الحسبان عواقب كل صدام معها. ويشهد أغلب المعلقين العسكريين«الإسرائيليين» على أن لعبة عقول وردع تجري مع القطاع بأشكال مختلفة بينها إنشاء هذه الجدران. فبين أهدافها الأساسية إشعار الفلسطيني بأنه إذا أفلت من العائق الأول فإنه حتماً سيصطدم بالعائق الثاني وسيكون مصيره الفشل.
غير أن مقاومة أهل غزة التي واجهت الجدار الأمني بحفر الأنفاق وواجهت الجدران الخرسانية بالمقذوفات منحنية المسار وواجهت العربدة بمسيرات العودة تعمل ليل نهار من أجل توفير حلول لمواجهة الجدران القديمة والجديدة. ومن المؤكد أن تفاخر «إسرائيل» بجدارها الجديد لن يولد إلا المزيد من العزم المقاوم على اختراقه. ولا بد من الإشارة إلى حقيقة ملموسة في أداء «إسرائيل» وهي تتمثل في تعاملها مع الواقع وكأن السلام لن يتحقق أبداً. وبعد فشل الاحتلال في ردع المقاومة عن طريق حروبه واعتداءاته يحاول اليوم تعزيز الإحساس بالأمن لدى مستوطنيه عبر إقامة هذه الجدران والمزيد منها. ولكن الأمر المؤكد هو أن الجدران، وإن وفرت الأمان للمستوطنين لحظة، فإنها ستبقى عاجزة عن توفير الأمان لأوقات أخرى. وقد شهد تاريخ الصراع بذلك فهذه ليست أكثر من مهدئات وموانع مؤقتة سرعان ما تنهار أو تزول.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"