قمة إسطنبول.. تنازلات متبادلة لتحقيق التسوية السورية

02:30 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

مثلت قمة إسطنبول الرباعية في27 أكتوبر الماضي، خطوة مهمة في جهود التسوية السياسية للأزمة السورية.
والواقع أن انعقاد القمة في حد ذاته كان تطوراً مهماً، بدخول أكبر دولتين في الاتحاد الأوروبي بصورة مباشرة في جهود التسوية السورية؛ نعني ألمانيا وفرنسا، بما لهما من وزن سياسي واقتصادي وعسكري مهم.. والأهم من ذلك، بما يمكن أن تقدمه الدولتان خاصة ألمانيا، في مجال إعادة الإعمار وعودة اللاجئين والنازحين السوريين، سواء بصورة مباشرة أو عبر دورهما القيادي في الاتحاد الأوروبي.
قمة إسطنبول لم تبدأ من فراغ، وإنما استندت إلى جهود كبيرة سبقتها على مدى سنوات، سواء على مسار جنيف، أو في إطار صيغة أستانة التي تضم روسيا وتركيا وإيران، التي أشادت بها القمة الرباعية «باعتبارها نموذجاً للجهود الرامية لإيجاد حل سياسي للأزمة»، ولم تقدم تركيبتها الرباعية كبديل لتلك الصيغة العتيدة؛ بل كتعزيز لها، داعية لضم دول أخرى تحقق مزيداً من الفاعلية.
لكن هذا لا ينفي حقيقة أن إيران لم تكن مدعوة لقمة إسطنبول. وقد أكد الرئيس الروسي بوتين، أن بلاده ستبلغ «الشركاء» في دمشق وطهران، بكل تفاصيل المباحثات. وكان هذا التأكيد في المؤتمر الصحفي التالي لقراءة البيان الختامي للقمة، حيث أكد كل من القادة الأربعة المشاركين، ما لم يتضمنه البيان من نقاط وتفاصيل للمواقف، باعتبار أن بيان القمة يمثل «القواسم المشتركة» بين الأطراف.
وقد اهتم البيان الختامي بتأكيد التعاون والتنسيق بين جميع المبادرات الدولية الرامية إلى الإسهام في إيجاد حل مستدام وثابت وفعّال للأزمة.. وأن الحل لن يكون عسكرياً، وإنما عبر مسار سياسي قائم على المفاوضات «بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم 2254».
وبناء على ما سبق، فإن مسار إسطنبول إذا جاز القول لا ينفي مسار أستانة ولا مسار جنيف؛ بل يجمع بين عناصر منهما كليهما في صياغة جديدة، تعكس علاقات القوى والمتغيرات والمهام المطروحة على الساحة السورية وحولها، ومن المتوقع أن تكون خطة التسوية التي يطرحها محل شد وجذب بين أطرافه، كما أظهرت كلمات القادة في المؤتمر الصحفي عقب القمة، من جهة، ومع دمشق، وكذلك مع الأطراف الأخرى المرتبطة بالأزمة كطهران وواشنطن، وبقية فريق «المجموعة المصغرة لأصدقاء سوريا»، لكننا نتوقع أن تكتسب «صيغة إسطنبول» وزناً متزايداً في المسار اللاحق للأحداث.
وربما كان من الضروري هنا، أن نشير إلى أن موافقة روسيا على هذا الحضور الأوروبي من الوزن الثقيل (ألمانيا وفرنسا)، بعد طول رفض وممانعة وتجاهل للمطلب الفرنسي بالذات، بدور في التسوية السورية، وبالرغم من اختلافاتها مع المواقف الأوروبية، خاصة مع الموقف الفرنسي.. هذا الموقف الروسي على مبادرة لم يستشر فيها أردوغان موسكو؛ إنما يرتبط بالذات ببروز قضيتي إعادة الإعمار، ودعوة اللاجئين السوريين «المترابطتين عضوياً» إلى صدارة جدول الأعمال، بعد سيطرة القوات السورية والروسية وحلفائهما على نحو 70% من أراضي البلاد؛ إلا أن المكاسب العسكرية الكبيرة لا يمكن أن تكتسب قيمتها الحقيقية إلا من ترجمتها إلى واقع سياسي، من خلال إعادة الإعمار وإعادة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم (7 ملايين لاجئ و6 ملايين نازح يمثلون حوالي نصف الشعب السوري).
وهي عملية ضخمة تحتاج إلى استثمارات هائلة لا تقدر روسيا ولا حلفاؤها وأصدقاؤها عليها، وبالتالي فلا بد من دعم دولي، خاصة أوروبي، بما لأوروبا من قدرات اقتصادية هائلة، ووزن سياسي كبير، ومصلحة في وقف موجات الهجرة السورية التي كلفتها أكثر من 140 مليار دولار، خلال الأعوام الماضية، فضلاً عن مخاطر الإرهاب بالطبع، وهي مخاطر لسنا بحاجة لشرحها.
لكن أوروبا لم تكن مستعدة لمدّ يد العون في قضيتي اللاجئين وإعادة الإعمار، دون تحقيق تقدم واضح ومتواصل في جهود التسوية السياسية، ومع بروز هذه الجهود، خاصة بعد الحوار بين النظام وأطياف المعارضة في مؤتمر سوتشي، والتوجه نحو تشكيل لجنة صياغة الدستور، ثم مع عقد الاتفاق حول إدلب بين أردوغان وبوتين، انفتح الطريق نحو قمة إسطنبول.
ولنلاحظ هنا أن التعاون الأوروبي (الألماني الفرنسي في البداية) سيكون أولاً في مجال المساعدات الإنسانية، بشرط ضمان وصولها إلى جميع المناطق «بما فيها إدلب وشرقي الفرات»، ومشاركة منظمات المجتمع المدني في توزيعها. ولنلاحظ أيضاً أن بيان القمة، نصّ على ضرورة تشكيل قائمة المجتمع المدني في لجنة صياغة الدستور قبل نهاية العام (ثلث أعضاء اللجنة)، لتبدأ عملها مع بداية العام الجديد، وربما قبل وصول أي مساعدات إنسانية.
وفي المقابل تدعو القمة الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية لزيادة مساعدتها للشعب السوري «دون اشتراط لمنع هذه المساعدات عن المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، كما كانت الحال سابقاً».
أما عودة اللاجئين، فيشترط أن تكون طوعية وآمنة، مع ضمان عدم تجنيدهم أو اعتقالهم تعسفياً، أو اضطهادهم سياسياً، فضلاً عن توفير البنية الأساسية الضرورية لعودتهم، كما ينبغي أن يترافق مع عمل لجنة صياغة الدستور «ولنلاحظ أنها كلها من السوريين، وأن القمة لم ترفض تطوير الدستور الحالي؛ بل تحدثت عن إصلاح دستوري»، وتهيئة الأرضية لانتخابات حرة ونزيهة برعاية أممية، يشارك فيها جميع السوريين بمن فيهم المغتربون.
وفي المقابل، نصّ بيان القمة على التمسك بسيادة واستقلال أراضي سوريا، ورفض الأجندات الانفصالية التي تهدد وحدة سوريا (شرط سوري وروسي أساسي)، أو تهديد الأمن القومي للدول المجاورة (شرط تركي ضد قيام كيان كردي انفصالي). كما دعا البيان إلى رفض وإدانة استخدام الأسلحة الكيماوية من جانب أي طرف، بينما كانت الاتهامات والتهديدات في الفترة الماضية توجه إلى النظام وحده، بالرغم من التقارير المخابراتية عن امتلاك المنظمات الإرهابية تلك الأسلحة، فيما أعلن أردوغان أن مستقبل الرئيس الأسد أمر متروك لقرار الشعب السوري، وهو موقف جديد للرئيس التركي توافق عليه ألمانيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى منذ فترة.
وأكدت القمة ضرورة استمرار الأطراف المتصارعة في الالتزام بوقف إطلاق النار، في إطار الاتفاق حول إدلب، مع ضرورة استمرار «العمل المشترك» ضد «داعش» و«النصرة» والأفراد والتنظيمات الإرهابية المتصلة بهما، وهو ما يلقي بالكرة في ملعب أردوغان، فيما يتصل بضرورة نزع سلاح المنظمات الإرهابية الموجودة في إدلب، والتعامل مع أفرادها.
وخلاصة القول إن قمة إسطنبول شهدت تنازلات متبادلة، نتجت عنها قرارات متوازنة إلى حد كبير، تفتح الباب لتقدم جهود التسوية السياسية السورية، بمشاركة ألمانية وفرنسية فاعلة، تمهد لمشاركة أوروبية أوسع.

* كاتب ومحلل سياسي وخبير في الشؤون الروسية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"