«السيل التركي».. اختراق روسي جديد

03:54 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

تدشين الجزء البحري من خط أنابيب الغاز الروسي التركي إنجاز مهم، يضاف إلى إنجازات بناء العلاقات متزايدة القوة والتشعب بين موسكو وأنقرة. والجزء البحري من مشروع خط الأنابيب الروسي التركي هو الجزء الأكبر والأصعب من المشروع الذي تقدر تكلفته الإجمالية ب11 ملياراً و400 مليون يورو .
المشروع هو عبارة عن خط مزدوج من أنبوبين طاقتهما الإجمالية (31.5 مليار م3) من الغاز، وطاقة الواحد منهما (15.75 مليار م3)، يغذي أحدهما تركيا. ومن المقرر أن يذهب الأنبوب الثاني إلى بلدان جنوبي وجنوب شرق أوروبا، وربما وسطها «النمسا والمجر»، حسب سيناريوهات مختلفة لم ينته التفاوض حولها بصورة حاسمة بعد.
وتملك الجزء البحري من الخط شركة «جازبروم» الروسية. وهو يمتد بطول حوالي ألف كيلومتر تحت مياه البحر الأسود، بينما تملك شركة «يوتاس» التركية الجزء البري من الخط، الذي يخترق القسم الأوروبي من الأراضي التركية غربي بحر مرمرة «منطقة تراقيا» الملاصقة للحدود اليونانية من الشرق، والحدود البلغارية من الجنوب.
والواقع أن الخط الجديد بالغ الأهمية بالنسبة لكل من الشريكين، فبالنسبة لتركيا لن يمثل «السيل التركي» مصدراً ضخماً ومنتظماً للإمداد بالغاز الطبيعي فحسب، بل سيعني أيضاً تحول تركيا إلى مركز إقليمي لتخزين وتصدير الغاز إلى أوروبا، الأمر الذي يعني تعزيز الأهمية الجيوسياسية لتركيا، وهو ما تبدو الأهمية الاقتصادية «رسوم الترانزيت» إلى جانبه أمراً أقل أهمية بالطبع.
ووفقاً للسيناريو الأرجح، فمن المقرر أن يخترق الخط الحدود التركية الغربية إلى اليونان، ومنها إلى إيطاليا، أو إلى اليونان فمقدونيا وصربيا وصولاً إلى النمسا (وفق سيناريو ثان).. أو أن يخترق الحدود التركية إلى بلغاريا ومنها إلى صربيا والمجر والنمسا (RT نقلاً عن نيزافيسيمايا جازيتا 21 نوفمبر 2018).. «وفق سيناريو ثالث».. وهو ما تطلب روسيا ضمانات أوروبية جدية بشأنه.
ويستحق هذا السيناريو الثالث وقفة عنده لاتصاله الوثيق باستراتيجيات وتسويق الغاز الطبيعي ومد خطوط أنابيبه.
فقد كان مقرراً «للسيل التركي» في البداية أن يحمل اسم «السيل الجنوبي» وأن يمتد إلى بلغاريا ومنها إلى صربيا والمجر والنمسا.
وكان اهتمام روسيا الكبير بهذا الخط راجعاً إلى رغبتها في نقل الغاز إلى أوروبا مع تفادي «الطريق الأوكراني» الذي بدأت مشكلاته تتفاقم بعد «الثورة البرتقالية/ 2004-2005) في أوكرانيا، ثم بصورة أخص بعد الأزمة الأوكرانية الأخيرة، واستعادة روسيا للقرم (2014).. ما دفع روسيا للسعي نحو إقامة خط «السيل الشمالي 2» إلى ألمانيا عبر بحري البلطيق بمحاذاة خط «السيل الشمالي» الموجود من قبل وهو ما يجري العمل فيه فعلاً، ويثير مشكلات كبيرة بين واشنطن وكل من موسكو وبرلين.
كما سعت روسيا إلى بناء خط آخر يحمل غازها الطبيعي إلى جنوب ووسط أوروبا، عبر بلغاريا..»السيل الجنوبي».. إلا أن الضغوط الأمريكية والأوروبية الغربية أجبرت بلغاريا على إيقاف المشروع، رغم احتياجها إليه بعد أن كانت روسيا قد قطعت شوطاً كبيراً في بنائه تحت مياه البحر الأسود، والآن وبعد أن قارب المشروع من الاكتمال (2019) عادت بلغاريا لتطلب مد فرع منه إليها.. وهو ما تطلب روسيا ضمانات أوروبية بشأنه حتى لا يتكرر ما حدث عام 2016.
ما يعنينا هنا هو أنه حينما توقف المشروع «البلغاري» برزت فكرة تحويل مسار الخط إلى تركيا، وتسميته «بالسيل التركي».. ومن ثم مده إلى أوروبا الجنوبية عبر الحدود التركية.. ومن مفارقات براجماتية بوتين وأردوغان- التي لا تفتأ تدهش المراقبين- أن الاتفاق بشأن خط الأنابيب جاء في إطار إجراء المصالحة الواسعة التي تم اتخاذها وقتذاك، بعد اعتذار أردوغان عن إسقاط الطائرة العسكرية الروسية «سوخوي 24» على الحدود السورية التركية، والعقوبات الاقتصادية الصارمة التي اتخذتها موسكو ضد أنقرة وقتذاك.
ومعروف أنه لم يتم وقتها الاتفاق على إلغاء العقوبات الاقتصادية الروسية فحسب، بل وأيضاً دخول موسكو وأنقرة مع طهران فيما عرف «بعملية آستانا».. وهي إجراءات مثلت في مجملها تحولاً استراتيجياً تركياً نحو التعاون الواسع مع روسيا، وإيران.. وكذلك مع الصين «مع السعي للانضمام لمنظمة شانغهاي» وجاء هذا «الانفتاح على أوراسيا» في إطار سعي أنقرة لتوسيع خياراتها الاستراتيجية، وبالرغم من عضويتها في حلف «الناتو».
وقد عزز هذا التوجه التركي موقف موسكو الداعم لأردوغان في مواجهة انقلاب «يوليو 2016» الفاشل، وشبهات الدعم الأمريكي للانقلاب، ثم كانت الخطوة الروسية ببناء محطات نووية للطاقة الكهربائية والتي ستدخل تركيا بها عصر الطاقة النووية «محطة أكويو جنوبي تركيا» بتكلفة قدرها (20 مليار دولار) وطاقة قدرها (4800 ميجاوات) وقد وضع بوتين وأردوغان حجر أساسها في إبريل 2018.
وكان الأمر الأكثر إثارة هو اتفاق الطرفين على إمداد موسكو لأنقرة بصواريخ (إس 400) الدفاعية المتطورة، الأمر الذي أشعل غضب أمريكا ودوائر «الناتو».. ومع ذلك يتمسك به أردوغان.
وواضح أن موسكو وأنقرة تمضيان في توسيع وتعميق العلاقات بينهما في إطار ما يمكن تسميته «باستراتيجية الاعتماد المتبادل» مع سعي بوتين لأن يكون الاعتماد التركي أكثر، بحكم تقدم روسيا وضخامة إمكاناتها.. فالكرملين يعرف مدى تعقيد وخطورة «الصداقة.. أو الشراكة الملغومة» مع أردوغان بطبيعته المتقلبة والمراوغة وإن لم نقل الغادرة وطموحاته التوسعية الإمبراطورية العثمانية.. لذلك يبدو لنا أن تعزيز اعتماد تركيا على روسيا هو أحد أهم العوامل التي يعتمد عليها بوتين لكبح جموح أردوغان وترويض طموحاته الإمبراطورية، وخاصة في سوريا والعراق.
وفي الوقت نفسه تتدفق السياحة الروسية إلى تركيا (5 ملايين سائح حتى نهاية سبتمبر الماضي)، وتزدهر التجارة بنسبة 37% في النصف الأول من العام الجاري، بصادرات روسية قدرها (11.45 مليار دولار) وتركية تبلغ حوالي (ملياري دولار) (RT نقلاً عن جريدة «الزمان» التركية 8-8-2018)، ومع ملاحظة أن السياحة تمثل صادرات خدمية كبيرة.. ويتحدث الطرفان عن إمكانية بلوغ التبادل التجاري (100 مليار دولار) وهو ما يبدو لنا مبالغة كبيرة.. لكن العلاقات تزدهر بحيث يبدو إفسادها حماقة كبرى، وخاصة بالنسبة لتركيا.
وعودة إلى «السيل التركي» نقول إنه يمثل اختراقاً كبيراً لصالح روسيا ليس بسوق الغاز التركية فحسب، وما يعنيه ذلك من تعزيز مواقعها في الشرق الأوسط عموماً وسوريا خصوصاً، بل إن ما لا يقل أهمية هو الاختراق نحو جنوب ووسط أوروبا عبر طريق غير أوكرانيا.. وهو اختراق استراتيجي بكل معنى الكلمة لمحاولة الحصار الأمريكية للغاز الروسي. وخاصة إذا ما أقيم خط مواز للحالي على غرار ما يحدث مع ألمانيا «السيل التركي 2» حيث يتزايد الطلب على الغاز الطبيعي بصورة كبيرة في كل بلدان جنوب ووسط أوروبا.. وهو ما يسبق محاولات «إسرائيل» المتأخرة والمكلفة للنفاذ لتلك الأسواق، ويمنح روسيا موقعاً متميزاً فيها.

* كاتب ومحلل سياسي، خبير في الشؤون الروسية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"