مرآة أمريكا الاقتصادية

23:05 مساء
قراءة 4 دقائق

دانييل لاكال*

ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الولايات المتحدة بمعدل سنوي قدره 3.3% في الربع الرابع من عام 2023، أي أن الزيادة بلغت 1.5 تريليون دولار وفقاً لمكتب الإحصاءات الاقتصادية. لكن في المقابل، تضخم الدين العام بأكثر من تريليوني دولار، وهذا لا يشكل اقتصاداً قوياً على الإطلاق. بالتالي، فإن نشوة الانتصار الناجمة عن أرقام الناتج المحلي الإجمالي الأخيرة للبلاد ليس لها أي معنى.

لم يعد هناك شيء إيجابي في الاستهلاك عندما نرى أن الادخار الشخصي كنسبة مئوية من الدخل المتاح بلغ 3.7% فقط في ديسمبر/ كانون الأول، وقد كان الدخل الشخصي في عام 2017 راكداً بشكل أساسي. وعليه، انخفض حجم مشتريات المستهلك الأمريكي قياساً إلى راتبه، إنه اقتصاد متضخم بالفعل.

ولا يمكننا إغفال حقيقة أن أحد أكبر محركات الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي للربع الرابع كان الانخفاض المفاجئ في معامل انكماش الناتج نفسه، والذي سجل 1.5%، أي أقل من نصف القراءة السابقة التي بلغت 3.3%. وهو ما يشكل دفعة هائلة للناتج الحقيقي نتيجة لخفض تقديرات التضخم على نحو لم يشهده أغلب الأمريكيين.

علاوة على ذلك، بلغت ديون بطاقات الائتمان أعلى مستوياتها على الإطلاق، وبات الأمريكيون يستغرقون وقتاً أطول لسداد أرصدتهم. حيث بلغت نسبة من يعانون منهم ضائقة مالية بسبب ديون بطاقات الائتمان المستوى ذاته الذي كانت عليه خلال فترة الركود الكبير، وذلك وفقاً لتقرير صادر عن بنك الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس بعنوان «حصة الأمريكيين الذين يعانون ضائقة مالية تصل إلى مستويات عالية».

ويتجلى ركود الاقتصاد الحقيقي بوضوح تام أيضاً في رقم الدخل المحلي الإجمالي الذي بلغ -0.1%، وهو ما يوضح سبب رؤية مواطني الولايات المتحدة للاقتصاد في حالة ركود، خصوصاً عندما يصور لهم الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي الأمر بشكل مختلف.

والشيء نفسه يحدث مع التضخم، فربما يعتبر المشاركون في السوق والحكومة أن البيانات المتعلقة بتضخم نفقات الاستهلاك الشخصي إيجابية للغاية، ولكن إذا نظرنا إلى الخدمات غير القابلة للاستبدال، وخاصة المأوى، فسنجد أنها ترتفع فوق 5%.

قد تبدو الأرقام المذكورة أعلاه بمثابة حلم لأي مواطن في منطقة اليورو، حيث يعاني الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي من الركود، حتى مع إلغاء صندوق الاتحاد الأوروبي الضخم للجيل القادم وجميع القواعد المالية. ومع ذلك، يجب على مواطني الولايات المتحدة أن يفهموا أن مسار اقتصادهم الحالي لن يؤدي إلا إلى الركود. لكن إذا اتبعت واشنطن السياسات الأوروبية، فسوف تُكافأ بركود مشابه وارتفاع في معدلات البطالة.

والدرس المستفاد هنا هو أن ما يسمى «التحفيز العام» ينعكس دوماً على هيئة مزيد من الديون، وهو ما يعني بدوره المزيد من الضرائب، وانخفاض النمو، وأجور حقيقية أضعف للأسر، فضلاً عن بيئة أكثر تشدداً للشركات الصغيرة.

وليس من المستغرب أن نقرأ أن ستة من كل عشرة أشخاص استطلعت شبكة «سي بي إس نيوز» آراءهم يصنفون الاقتصاد على أنه «سيئ إلى حد ما» أو «سيئ للغاية»، في وقت أصبحت فيه السياسة الاقتصادية الأمريكية منفصلة بشكل متزايد عن الشركات الصغيرة والأسر، الذين يشعرون وسط الآثار السلبية للتضخم وتخفيضات أسعار الفائدة اللاحقة. وفي حين يرتفع حجم الحوكمة في الاقتصاد، فإن الأرقام الإجمالية تبدو أبعد ما يكون عن الواقع الذي يعيشه الأمريكيون.

والمفارقة أن الأمر نفسه يتكرر أيضاً في القارة العجوز، فبينما تحتفل الحكومات بإجمالي الناتج المحلي الإجمالي وتغيرات التضخم السنوية، يرى المواطن العادي هناك القوة الشرائية لراتبه تتدهور بسرعة وتصبح القدرة على تغطية النفقات أكثر تعقيداً. وتشعر الشركات الصغيرة كذلك بتدمير هوامش ربحها عندما يرتفع التضخم، وتعاني بقدر مضاعف عندما ترتفع أسعار الفائدة، لأن العبء الكامل لتوسع السياسة النقدية وانكماشها يقع على عاتق العامل العادي وأصحاب المشاريع الصغيرة. من المهم أن نتذكر أن هذا الوضع المزري بالنسبة للأغلبية يأتي بعد سلسلة غير مسبوقة من خطط التحفيز النقدي والمالي المفروضة تحت مسمى إعادة التوزيع ومساعدة الطبقة المتوسطة التي عليها أن تكون ممتنة، لكن الواقع يُظهِر أن القمع المالي، وحجم التشدد الهائل، والديون المتضخمة هي عوامل خطيرة ومدمرة لهذه الفئة من المجتمع.

إن السياسات التي لم تنجح قط في الماضي، يجري تطبيقها اليوم بوتيرة مذهلة وبمستويات هائلة من طباعة النقود وتراكم الديون. والنتيجة، أن الحكومة الأمريكية تُحمل مسؤولية ضعف ثقة المستهلكين والشركات على أي شخص، وأي شيء، باستثناء نفسها.

فالاقتصاد القوي لا يعني العجز والديون الضخمة والمزيد من الضرائب وقلة الفرص، فضلاً عن الأجور الحقيقية الأضعف والنمو المنكمش. أنا من منطقة اليورو، وأعي ذلك تماماً. أنا قادم من «مرآة أمريكا» للمستقبل إذا استمرت على هذا المسار من الركود وارتفاع معدلات البطالة.

*أستاذ الاقتصاد العالمي في جامعة «آي إي» الإسبانية، وكبير الاقتصاديين في «تريسز» لإدارة الأصول معهد «ميزس»

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5n8tjbcy

عن الكاتب

أستاذ الاقتصاد العالمي في جامعة «آي إي» الإسبانية، وكبير الاقتصاديين في «تريسز» لإدارة الأصول معهد «ميزس»

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"