رأسمالية التسلية

00:30 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

كثيرة هي الأطروحات التي صعدت بالشأن الثقافي في مقابل السياسي والاجتماعي، ففي نهايات القرن الماضي انهارت الإيديولوجيات، وصعد خطاب النيوليبرالية المعولم بعد أحداث سبتمبر 2001، ودعم ذلك مقولات عدة أطروحة صدام الحضارات لهنتنغتون. كان الهدف وضع النزاعات الثقافية: اللغوية والدينية والعرقية بديلاً لصراعات تأسست على أفكار كبرى تجمع بين البشر بغض النظر عن اختلافاتهم الثقافية.

إعلاء الثقافي مرة ثانية إفراز اقتصادي، لقد انتقلت الرأسمالية الجديدة من الإنتاج الصناعي الثقيل إلى رأسمالية يطلق عليها جيريمي ريفيكين في كتابه «عصر الوصول»، الرأسمالية الثقافية. يتتبع ريفيكين نوعية الثقافة المصاحبة للحضارة الغربية في مراحلها المتعددة، لقد ظل التحليل الغربي يدرس الظواهر الثقافية في إطار الحداثة أو ما بعد الحداثة، مدمجة أو مفصولة عن خلفياتها الاقتصادية وفقاً لتوجّه المحلل، الآن نحن نعيش مرحلة الرأسمالية الثقافية التي يصفها ريفيكين ناقداً بثقافة التسلية.

ثقافة التسلية وفق ريفيكين انفتحت على آفاق لا نهاية لها، إنها ترضي ذوق القارئ السريع، تلبي طموحات المهاجرين بالتركيز على سينما تنقل لهم حياتهم السابقة، أو فن تشكيلي غامض للنخبة، إنها تروج لكل شيء وفق آلياتها السحرية. يقول ريفيكين: «مع منتصف عقد التسعينات كانت التسلية في الحقيقة وبكافة أنواعها أسرع الصناعات نمواً في الولايات المتحدة الأمريكية مع أكثر من 480 مليار دولار يصرفها المستهلكون عليها سنوياً، إنها تتجاوز مقدار ما يصرف على كافة المدارس الابتدائية والثانوية في القطاعين العام والخاص، ويصرف الأمريكيون على ثقافة التسلية أكثر مما يصرفونه على السيارات والرعاية الصحية والملابس والإسكان، إنها القوة المحركة للتكنولوجيا الجديدة كما كان الدفاع سابقاً».

رأسمالية الثقافة أو إخضاع الثقافة للرأسمالية، ربما يفسر لنا مفارقة أننا مع صعود الشأن الثقافي ليس بإمكاننا وصف الواقع الثقافي الحالي بسمة مميزة: في الفكر أو الأدب أو الفلسفة أو الفنون. الأفكار كلها متجاورة وكأننا في سوق للأدب أو بازار للآراء على حد تعبير الراحل محمد عابد الجابري، واقع لم يعد للنقد فيه أية فعالية، فللسوق الكلمة النهائية.

إننا عندما نقرأ شكاوى المثقفين أنفسهم تجاه سطحية الكثير من الأعمال المنتجة، ندرك أن المسألة لا تعود إلى مدرسة أو اتجاه أو ذائقة جديدة، إنها متطلبات السوق.

دخلنا القرن الجديد بلا بوصلة جملة يفتتح بها أمين معلوف كتابه «اختلال العالم»، في عالم تسوده مفاهيم الاضطراب والفوضى والسيولة الفكرية، وسقوط الحدود الجغرافية يحتاج المثقف العربي إلى الموقف، والرؤية الأخلاقية الناقدة للواقع المحيط والأهم المدركة لأبعاده وجذوره.

نحتاج إلى مفكر بوزن الإيطالي إمبرتو إيكو الذي دعا جميع مثقفي العالم إلى إبداع ما شاؤوا مهما كان غامضاً ومنفصلاً عن الواقع وبعيداً عن الحياة الحقيقية للبشر، ولكنهم في الوقت نفسه على وعي تام بأدوارهم المعرفية أولاً المتمثلة في التوعية بما يحدث في كواليس العالم، والأخلاقية ثانياً المناهضة لكل هيمنة أو ظلم يقع في أي ركن من الأرض.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/59b3y8j9

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"