البحث في نهاية الموت

00:25 صباحا
قراءة 4 دقائق

عند النظر إلى لحظات معينة في التاريخ، نرى أن الجنس البشري يمر بتحولات غيّرت مجرى المستقبل إلى الأبد. تروي الكتب العديد من حالات التقدم التي دفعت العالم إلى الأمام، وبعضها أحدث دماراً لا يمكن تصوره. في هذه اللحظة، يواجه عالمنا العديد من هذه التحولات دفعة واحدة. يبدو أن الجنس البشري قد تغلب على العديد من نقائصه وأتم مسعاه في ترويض مخاوفه، وقد عمل بلا كلل ليتمكن من التحكم بما لا يمكن التحكم به. ومع ذلك، يبدو أن هناك شيئاً واحداً لا يزال قائماً، الظل القاتم الذي يخيم على جميع الكائنات الحية، الشيء الذي لا يهتم بأي إنجاز دنيوي مكتسب، الشيء الذي يضعنا جميعاً على قدم المساواة، وهو التوقف الحتمي للوجود: الموت.

لطالما واجه البشر مصيرهم بمحاولة فهم وقبول خلودهم بدلاً من مقاومته. اتفق الفلاسفة وعلماء النفس والشعراء على أن الوعي الذاتي الحقيقي ينشأ عندما يعترف المرء بالطبيعة العابرة للحياة؛ هذا القبول أمر بالغ الأهمية لتقدير الحياة بصدق. ومع ذلك، هناك من بيننا من يستهلكهم الخوف، ويظلون متحدين في وجه هذه الحتمية. ولم يؤد التقدم العلمي إلا إلى زيادة تصميمهم على مقاومة النهاية.

حالياً، هناك رائد أعمال مليونير في مجال التكنولوجيا يُدعى براين جونسون، كرّس حياته، وهو في سن ال 45، للسعي وراء إطالة العمر. كما استثمر مليارديرات آخرون، بما في ذلك جيف بيزوس ومارك زوكربيرج، الملايين في أبحاث إطالة العمر. من ناحية، يبدو هذا السعي نبيلاً من شأنه أن يفتح الأبواب أمام معلومات ضرورية عن الحياة البشرية ويساعد في تحسينها، ومن ناحية أخرى، يشعر المرء بالإرهاق من المعنى العميق لهذه الحرب الممولة جيداً ضد هذا المعادل العظيم.

تغلب كل من سقراط وأرسطو ونيتشه على فكرة الموت بالاستنتاج بأن الخلود مُسلَّم به، لأن الروح خالدة ومنفصلة عن الجسد. تتفق الأديان المختلفة في العالم أيضاً على هذه الفكرة، من الحياة الأخرى الأبدية إلى التقمص، حيث ترى معظم الثقافات الموت كبداية وليس نهاية. لقد حذرت الأعمال الأدبية من السعي إلى الخلود وصورته على أنه عبثي لا يجلب السعادة بمجرد تحقيقه.

وفي عالم الخيال والفانتازيا، تتجلى التحذيرات من خلال أعمال مثل رواية «انقطاعات الموت» لجوزيه ساراماغو، حيث يفسح الابتهاج الأولي بتوقف الموت المجال أمام صعوبات ديموغرافية ومالية غير متوقعة. وبالمثل، يكشف «دراكولا» لبرام ستوكر أنه إذا كان هناك درس يمكن تعلمه من فلسفة مصاص الدماء، فهو أن الخلود لعنة، مُقدَّر لهم أن يعيشوا إلى الأبد بينما يشاهدون أحباءهم يموتون ويعيشون حياة بلا بهجة يصبح فيها الرائع عادياً.

يدعي جونسون أنه ينفق مليوني دولار سنوياً لإبطاء عملية الشيخوخة، ونجح في عكس عمره البيولوجي بمقدار خمس سنوات. وبمراقبة رحلته، قد يتساءل المرء عما إذا كانت تكاليف مثل هذا المسعى تقتصر على الجانب المادي فقط. يعترف جونسون، بعد أن طلق زوجته، بأنه لم يعد قادراً على العيش مع شريك لأن أسلوب حياته أصبح مرهقاً للغاية بحيث لا يستطيع شخص آخر تحمله. يستيقظ وحيداً، ويلتزم بروتين صارم من التمارين البدنية والعقلية الشاقة، ويستهلك أكثر من 100 حبة على مدار اليوم. هذه الحياة الرتيبة المليئة بالأدوية والتجارب السريرية جعلته يبدو رجلاً شبه آلي. تكشف مشاهدة المقابلات التي أجراها عن التأثير العميق الذي أحدثته هذه التجربة في إنسانيته بصورة كبيرة.

لقد جذب هوسه متابعين من خلال موقع براين جونسون الإلكتروني لمجتمع «لا تمت» الذي يصف نفسه بأنه «مجتمع لامركزي موحد في هزيمة الموت وبناء الرخاء»، ويدعو الناس للانضمام عن طريق التسجيل في وثيقة تتفاخر ب«حربهم ضد الموت» و«البناء نحو أفق لا نهائي». إن ما تم الترحيب به ذات يوم باعتباره مسعى نبيلاً أصبح يشبه بشكل متزايد عقيدة شبيهة بالعبادة. ولجعل الأمور أكثر تعقيداً، قدم جونسون «Blueprint Stack»، وهو عبارة عن مجموعة من المشروبات والحبوب والعلاجات بسعر 343 دولاراً للجمهور. ويقال إن أوليفر زولمان، الطبيب البريطاني الذي يقود تجارب جونسون، يخطط للاستفادة بشكل أكبر من هذه العلامة التجارية من خلال فتح سلسلة من عيادات تجديد الشباب.

عند البحث عن جونسون، يجد المرء عدداً كبيراً من البيانات الصحفية والمقابلات المليئة بالثناء والدهشة. ومع ذلك، فإن الغوص بشكل أعمق في ما وراء الواجهة التسويقية يكشف عن مقالات يشكك فيها الباحثون والعلماء والمختصون في الخلايا الجذعية في فاعلية النتائج التي توصل إليها جونسون. عند الشك في ما إذا كان هناك من سيختار عن طيب خاطر أن يعيش حياة رتيبة وخالية من البهجة مثل حياة جونسون قد أجبرهم على إعادة تسمية العلامة التجارية التي تهدف الآن إلى تصوير أسلوب حياته على أنه «بسيط» في الحقيقة، ويمكن تكييفه مع الجميع.

إن استغلال المخاوف المجتمعية يمكن أن يؤدي إلى فرض قوة هائلة وتحقيق فوائد مالية. تَعِد الأبحاث الحالية بالحياة الأبدية ولكنها لا تقدم أي ضمانات في ما يتعلق بجودتها. العيب الأكبر في تفكير مجتمع «لا تمت» هو أنه يفترض أن الموت يأتي فقط مع التقدم في العمر، ولكنه يتجسّد في أشكال عديدة ويظهر عندما يكون مقدراً له. بالنسبة للكثيرين الذين يموتون قبل الأوان، تعتبر الشيخوخة امتيازاً. وتكمن المفارقة في سعينا إلى الخلود، متجاهلين في كثير من الأحيان الأرواح التي تُزهق حالياً. ما قيمة طول العمر في المخطط الكبير للأشياء عندما يمكن أن تنتهي الحياة بضغطة زر أو بموجة من الغضب؟

أكد الشاعر العربي طرفة بن العبد أن للموت قيمة أساسية في الحياة، واصفاً إياه بأنه حجر الزاوية في الوجود الإنساني.

وفي الواقع، فإن رفض الموت لا يعني بالضرورة احتضان الحياة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/52fx5pc4

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"