لبنان والتطورات الاقتصادية العالمية

01:48 صباحا
قراءة 5 دقائق

تعزل الأزمة السياسية الحالية لبنان عن تطورات الاقتصاد الدولي . ففي أفضل الحالات، يحاول لبنان تخفيف الخسائر الحقيقية والمحتملة التي تلحق باقتصاده . في أسواء الحالات، لا يستطيع لبنان حماية نفسه وتسوء الأوضاع الاقتصادية أكثر . وقال أدام سميث مؤسس العلوم الاقتصادية انه لا يمكن لمجتمع أن يكون سعيدا ومزدهرا اذا كان قسم كبير منه فقيرا أو بائسا أو قلقا . فهل وصلنا الى هذه الدرجة أم اننا نتجه اليها؟ تركز الدراسات العلمية الحديثة على العوامل المرتبطة بالفعالية والانتاجية والتنافسية وتهمل مواضيع العدالة، وهذا خاطئ . يعتقد بعض الاقتصاديين بعدم امكانية تحقيق النمو والعدالة في الوقت نفسه، وبالتالي وجب التركيز على الأسهل والأقل تكلفة وهو الأول . يعتقد البعض الآخر أن هنالك علاقة سلبية بين الفعالية والعدالة، وبالتالي الخيار حتما صعب . تشير بعض الوقائع الحديثة الى أن العلاقة بين العدالة والفعالية ليست دائما سلبية، وبالتالي يجب أن يطمح المسؤولون السياسيون الى التقدم سوية في الاتجاهين عبر مجموعة سياسات اجتماعية واقتصادية متوازنة ومتجانسة .

ما يحتاج اليه لبنان هو احصاءات حقيقية محايدة مبنية على أسس علمية . ولا يمكن أن تبقى الأرقام ضائعة بين المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمالية كما يحصل اليوم . ومن يقرأ مؤشرات التضخم وغلاء المعيشة يهزأ بل يضحك أو يحزن من الفوارق الكبيرة بين المصادر . علينا أن نطور مديرية الاحصاء المركزي أو من الأفضل أن نلغيها لنؤسس مؤسسة احصاءات وطنية مستقلة تقوم، كمثال، بمهام المعهد الوطني للاحصاء والدراسات الاقتصادية الفرنسي INSEE أو غيره من المؤسسات الوطنية الغربية . وتوافر احصاءات كاملة ودقيقة يزيد من الشفافية العامة ويسهم في جذب الاستثمارات . أين موقع لبنان اليوم في السوق الاستثماري الدولي وسوق رؤوس الأموال العالمية التي تغذي اقتصادات الدول الناشئة والنامية؟ ولبنان، بسبب السياسة والسياسيين، غائب عن المسرح الاقتصادي الدولي .

ما يدعو للعجب أن رؤوس الأموال بأكثريتها الساحقة تتدفق الى الدول الصناعية وليس العكس . يقول المنطق إن الاستثمارات في الدول النامية والناشئة أربح لأنها تحتاج الى كل شيء، وبالتالي تحقق عائدا كبيرا مقارنة بالمخاطر المحتملة . وتشير الوقائع انه على الرغم من منطق العائد، تهرب رؤوس الأموال الى الدول الصناعية مما يضر باقتصادات الدول النامية والناشئة . وكي تتحول رؤوس الأموال باتجاه الدول النامية والناشئة وتسهم بالتالي في نموها وفي تخفيف الفقر، على الأخيرة تطوير انتاجية اليد العاملة عبر استيراد التكنولوجيا الحديثة من الغرب . ان التكلفة المنخفضة لليد العاملة في الدول النامية والناشئة مهمة، لكنها تبقى أقل تأثيرا من الانتاجية المتدنية . وتتجه رؤوس الأموال الى الاقتصادات التي تنعم بمؤسسات وقوانين ومناخ عام مناسب، مما ينعكس ايجابا على انتاجية العمل . وينعم لبنان بيد عاملة نشطة ومتوافرة، لكنها تحتاج كثيرا الى التدريب حتى تصل انتاجيتها الى مصاف الدول الغربية . ما يحصل في لبنان من تطورات يشغل ضمير المواطن والطالب والشاب ويحول تركيز فكرهم من العمل والجهد والمثابرة الى الجدل السياسي المضر بمستقبل الاقتصاد .

لم يدخل لبنان بعد الى منظمة التجارة العالمية وهنالك خلافات داخل الجسم الانتاجي حول توقيت هذا الانضمام وفوائده وكيفية التحضير له . وفي هذا المضمار أيضا، يمر الوقت من دون تحقيق التحضيرات الجدية المطلوبة وبالتالي يتأخر الانضمام الحتمي الى المنظمة . ولم تدخل الخدمات الى قلب التحرير التجاري الدولي الا منذ سنة 1995 لأن المجتمع الدولي فهم جليا أنه لا يمكن تحقيق التطور الاقتصادي من دون خدمات ممتازة . ان الاتفاق على تحرير التجارة الخدماتية أدق من الاتفاق على تجارة السلع الزراعية والصناعية لأن الأولى صعبة التحديد وتتنقل بسهولة تعجز العين والأرقام أحيانا عن رؤيتها .

ونعلم أن الاقتصاد اللبناني يرتكز على الخدمات التي تشكل اليوم حوالي 20% من التجارة العالمية وحوالي 55% من النشاط الاقتصادي في الدول النامية والناشئة و 70% من النشاط في الدول الصناعية . أكثر من 60% من الاستثمارت الأجنبية المباشرة الدولية تأتي من قطاع الخدمات، مما زاد من حجم العمالة في القطاع الى 40% من المجموع العالمي .

يتحول الاقتصاد الدولي أكثر فأكثر الى القطاع الخدماتي، اذ يعتبر المسرع الأكبر للاندماج التجاري الدولي . تزداد مع الوقت أهمية قطاعي السفر والنقل ولا يمكن التكلم عن اقتصاد دولي من دونهما . يحتاج التطور التجاري الدولي الى بنية تحتية متطورة تساهم في تحفيز النمو الوطني والاقليمي والدولي . لا يمكن انشاء تجمع اقتصادي تجاري من دون بنية تحتية متطورة، وهذا ما فهمته أوروبا منذ منتصف القرن الماضي وما زلنا نحاول فهمه عربيا .

الاقتصاد اللبناني مدولر في وقت يسقط خلاله النقد الأمريكي . ويبلغ العجز الحالي في الميزان التجاري الأمريكي حوالي 750 مليار دولار أو 6% من الناتج المحلي الاجمالي . أما عجز ميزان الحساب الجاري فوصل الى 850 مليار دولار، وهذا سيىء عالميا ومضر بالاقتصاد الأمريكي . ويسقط الدولار من دون أن تتحسن الأوضاع الاقتصادية الخارجية الأمريكية، لأن الأمريكيين اعتادوا على الاستيراد ولا يمكن أن يفرضوا على الخارج شراء منتجاتهم وخدماتهم . وهذه مشكلة أمريكية كبرى تنعكس سلبا على الاقتصاد الدولي بسبب حجم أمريكا الاقتصادي . أما عجز الموازنة، فبلغ 2% من الناتج وهو انتقال سلبي كبير أي من فائض مع نهاية عهد الرئيس كلينتون الى ما هو عليه اليوم . وهنالك مشكلة ادخار في أمريكا تنبع من ضعف ادخار الأشخاص والأسر مما يفرض على الاقتصاد الأمريكي الاقتراض من الخارج . وأهم الأسباب التي خففت الادخار الشخصي والأسري الأمريكي في الماضي زالت اليوم، أي ارتفاع أسعار المنازل وسهولة الاقتراض العقاري الذي سمح بإعادة التمويل . اذا زاد الادخار الشخصي والأسري، يخف الاستيراد وتتحسن أوضاع الميزان التجاري ويخف حجم وتكلفة الاقتراض الخارجي العام . وكي تزول المشكلة التجارية الخارجية، على المجتمع الدولي شراء سلع أمريكية أكثر وهذا لن يحدث اذا لم يسقط الدولار أكثر .

وتشير الوقائع الى سقوط الدولار منذ أشهر لكن بوتيرة أقل مما كان متوقعا، وذلك بسبب تدخل الصين لمنع سقوطه . مصلحة الصين تبقى في تجنب انهيار الدولار لأنها تملك الكثير منه ومن الأصول المحررة به . ومصلحة الصين تقضي بعدم ارتفاع نقدها تجاه الدولار مما يسبب لها خسارة أسواق خارجية مهمة جدا . ولا شك أن من مصلحة الدول النفطية أيضا تجنب سقوط الدولار حفاظا على ايراداتها وأصولها، وبالتالي تسهم مباشرة في بقاء الدولار على ما هو عليه . هنالك بعض الأسباب الأخرى التي يمكن وصفها بالأوهام التي تمنع، في رأي البعض، حتى اليوم سقوط الدولار أكثر . أولا، اعتقاد أسواق المال بأن الادارة الأمريكية ما زالت كما تقول تؤمن بالدولار القوي وستدافع عنه اذا ما تعرض لعمليات بيع كبيرة . هنالك من يعتقد أيضا بأن عجز الميزان التجاري الأمريكي سيزول من دون انخفاض سعر صرف الدولار . هنالك بعض العملاء الذين يؤمنون بأن المستوى الحالي للدولار واقعي ويعكس الصورة الحقيقية للاقتصاد . أما القسم المتوهم الأخير، فهو الذي يعتقد بأن مشكلة الاقتصاد الأمريكي قصيرة الأجل ويمكن حلها بسهولة . واذا وصفنا هذه الأفكار ب الأوهام، نستطيع القول إن السعر الحقيقي للدولار هو أدنى مما هو عليه اليوم وبالتالي سيسقط الدولار أكثر وتسقط معه الليرة اللبنانية المرتبطة به .

الصورة الواقعية للاقتصاد الدولي دقيقة وترتكز على عاملين أساسيين معقدين أولهما تعثر مفاوضات التجارة الدولية وثانيهما سقوط الدولار وانعكاساته على الاقتصادين الأمريكي والدولي . يتأثر الاقتصاد اللبناني المنفتح سلبا بالعاملين الخارجيين المذكورين، وبالتالي لا بد من الوقاية عبر التحضير الجدي خاصة في هذا الزمن الصعب .

كاتب اقتصادي لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"