نظام الشعر

01:10 صباحا
قراءة 3 دقائق
نعم. الشعر موجود في كل شيء. في مجالات الحياة كلها، وفي حقول الثقافة على اختلافها، ولكن الشعر بعامة، يختلف عن التعبير الشعري بخاصة، وعن الكتابة الشعرية بالأخص.
والكتابة الشعرية قد تكون بلا نظام، وقد تكون مبنيةً على نظام يمكن وصْفه. والقطعة ذات النظام هي التي يمكن تسميتها «قصيدة». ولكن إطلاقَ هذه التسمية بات اليومَ في منتهى السهولة. فكل ما يُكتَب باسْم الشعر، يحرص أصحابه على عَده قصائدَ. وكأن الرغبةَ في كتابة الشعر كافية لإنتاج القصائد.

ولَما بتْنا نقبَل بأنْ تكون القصيدة غيرَ موزونة، أي بتْنا لا نشترط الوزنَ عنصراً ضرورياً من عناصر القصيدة، فقد تكاثرت الإشكالات المتعلقة بمفهوم «قصيدة النثر». وراحت هذه الإشكالات تَظهر أكثر ما تَظهر بين كتّاب النثر أنفسهم، أي بين كتّاب قصائد النثر. فبعض هؤلاء يشترطون مقومات محدّدةً في القطعة الشعرية النثرية كي تكون قصيدة. وبعضهم لا يشترطون. ولكنهم جميعاً يريدون لقصيدة النثر العربية أنْ تستمدّ مسوغاتها من قصائد نثر في آداب أجنبية.
وهكذا، بات مفهوم القصيدة ضائعاً بين كتّاب الشعر الموزون، وكتّاب الشعر غير الموزون، وكتّاب النثر(الشعري)، وكتّاب النثر(النثري).. وغيرهم.
لماذا لا نقول بكل بساطة: القصيدة هي قطعة شعرية لها نظامها الخاص؟ هذا ما أميل شخصياً إليه. وأقصد بنظام القصيدة مجموعة الروابط أو العلاقات بين مختلف مكوناتها، بين أجزائها أو مقاطعها أو سطورها أو جملها أو كلماتها.. الخ، وكذلك بين تشكلاتها اللغوية وتشكلاتها البلاغية وتشكلاتها الموسيقية.. وغيرها. وقد يكون من الجائز القول إن هذه الروابط أو العلاقات تشكل في مجموعها «بنية» القصيدة. وقد يكون من الجائز أيضاً أنْ نقولَ إن نظامَ القصيدة هو المنطق الذي يحكم بناءَها أو بنيتَها، وإنْ كان البعض يستغرب استخدام كلمة «المنطق» في هذا السياق.
عند هذا، يتبدى الخلاف جوهرياً بين من يريدون للقصيدة أن تكون ذات نظام نستطيع تبينَه فيها ووصْفَه والحكْمَ عليه، وبين من يقبلونها شذرات متناثرة بلا نظام فيحتفون بما فيها من جمَل قوية أو التماعات أو صوَر طريفة. ومثل هذه الجمَل أو الصوَر أو الالتماعات ليس مقصوراً على الكتابة الشعرية، وإنما يرد كثيراً في مختلف الكتابات، فلسفية كانت أو علمية أو تاريخية.. أو غير ذلك.
هنا تبرز أهمية التمييز بين الشعر والكتابة الشعرية. فالكتابة الشعرية تقبض على الشعر (الذي هو موجود في كل شيء) وتجعله في نظام. ولكنه نظام يتغيّر من قطعة شعرية إلى قطعة شعرية، أو بالأحرى من قصيدة إلى قصيدة.
إذاً، الشعر ليس له نظام. هو مبثوث في الكون كله، كالكون نفسه. هو موجود في الوجود كله، كالوجود نفسه. ولكن القصيدة هي نظامه المؤقت، هي النظام الذي ينطوي على نقْض نفسه، وينزع إلى غيره. هل نقول، بكلمة ثانية، إن القصيدة هي فن ابتكار النظام الشعري؟

الشعر ليس له نظام. والقصيدة هي نظام خاص بها. إذاً، القصيدة هي نظام شعري خاص. هذا ما أردْت لعنوان هذه المقالة أنْ يوحيَ به.
والشاعر، بين الكتّاب على أنواعهم، هو القادر على إنشاء القصائد، أي على ابتكار نظام خاص بكل قصيدة ينشئها. أما الذي يأتي بجمل لماحة متناثرة، هي كالومضات المفاجئة، فلا يتميز كثيراً عن غيره من الكتّاب في شتى مجالات الكتابة.

ولأن القصيدة قد تكون ناجحةً وقد لا تكون، فإن الشاعر لا يكفيه كي ينشئ القصائد الناجحة أنْ يكون ذا إمكانات لغوية وبلاغية وعروضية.. وما إلى ذلك، وإنما عليه إضافةً إلى ما تقدّم أن يكون ذا رهافة عالية وصاحبَ رؤى وصاحب ثقافة واسعة.. وما إلى ذلك.
لنقلْ أخيراً إن الشعر ينفر من النظام، بل يسعى إلى تغيير كل نظام. ولهذا، يظل في القصائد قلقاً من نظام إلى آخَر. فلكل قصيدة نظامها.

جودت فخر الدين

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"