هل تصح شهادة الأعمى؟

02:28 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عارف الشيخ

العمى ذهاب البصر من العينين معاً، فالرجل أعمى والمرأة عمياء، ولا يطلق العمى على من فقد عيناً واحدة.
والأعمى له أحكام خاصة في أبواب الفقه، والشهادة جزء من تلك الأبواب التي فصل فيها العلماء، والأعمى لا يصلح للشهادة مطلقاً كما ورد في «حاشية ابن عابدين» من الحنفية، والسبب أن الشهادة يشترط فيها البصر والمعاينة، نعم ربما نقول بالجواز فيما يثبت بالتسامع كالشهادة بالموت والنسب والنكاح والوقف (انظر من الكتاب ج 4 ص 71).
وفي مذهب المالكية أن الشاهد الأعمى تقبل شهادته في الأقوال مطلقاً سواء تحملها قبل العمى أو بعده، لأن الأقوال يضبطها بالسمع، وتجوز شهادته في المسموعات والملموسات والمذوقات والمشمومات إلا المرئيات، ولا تقبل شهادة الأعمى الأصم، (انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج 3 ص 167).

ويذكر القرطبي في تفسيره العظيم «الجامع لأحكام القرآن الكريم» قوله تعالى: «.. واستشهدوا شهيدين من رجالكم..» (الآية 282 من سورة البقرة) فقوله: «من رجالكم» دليل على صحة شهادة الأعمى لأن الأعمى داخل في «من رجالكم»، ثم قيده بأن يعلم يقيناً ثم يشهد، لا أن يخبر بالشيء فيبني شهادته على ما سمعه من غيره.

وبالمناسبة يجوز عند مالك أن يبني الأعمى شهادته على الصوت إذا عرف الصوت يقيناً، وقد روي عن ابن حاتم أنه قال: قلت لمالك: فالرجل يسمع جاره من وراء الحائط ولا يراه، يسمعه يطلق امرأته فيشهد عليه وقد عرف الصوت، قال مالك: شهادته جائزة.

أما الشافعية فقالوا: لا تقبل شهادة الأعمى إلا فيما تحمله قبل العمى أو ما كان بالاستفاضة، وذكر السيوطي في «الأشباه والنظائر» أنه لا تقبل شهادة الأعمى إلا في أربع مسائل: الترجمة والنسب وما تحمل وهو بصير، وإذا أقر في أذنه رجل فتعلق به حتى شهد عليه عند الحاكم (انظر الكتاب المذكور ص 250 و252).

والحنابلة قالوا: تصح شهادة الأعمى إذا كان قد تيقن الصوت، واستشهدوا بالآية نفسها وقالوا بأنه داخل في قوله تعالى «من رجالكم».

والظاهر أنهم يجيزون شهادة الأعمى في الأقوال ولا يجيزونها في الأفعال، بدليل أنهم يقولون: «وإذا كان الشهود على الزنى عمياناً فلا تقبل شهادتهم لأن العميان معلوم كذبهم، فهم شهدوا بما لم يروه يقيناً، والأعمى ليس من أهل الشهادة على الأفعال»، (انظر المغني لابن قدامة ج 12 ص 61 - 63).
وعند الزيدية أن الشهادة على الصوت لا تصح، إلا إذا كانت على الصوت مع العلم اليقين، (انظر شرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار في فقه الأئمة الأطهار لابن مفتاح ج 4 ص 199).

وعند الإمامية لا تصح شهادة الأعمى إلا إذا حصل العلم القطعي بالمشهود به. وبالإباضية قالوا: «لا يشترط في الشاهد أن يكون سميعاً بصيراً، فيشهد الأعمى في الأقوال والأصم في الأفعال، إلا إذا طلب منه أن يشهد فيما يشترط فيه السمع أو البصر»، (انظر شرح النيل وشفاء الغليل لمحمد بن يوسف أطفيش ج 6 ص 586).

أقول: إنني أحترم آراء الفقهاء رحمهم الله جميعاً، لكني أرى حسب بضاعتي المزجاة أنه لا يستوي الأعمى والبصير كما لا يستوي الجاهل والعالم ولا يستوي الليل والنهار.

نعم.. لو ما وجدنا بصيراً جازت شهادة الأعمى، أو ما وجدنا قاضياً بصيراً جاز للأعمى أن يعمل قاضياً، إذ لا يصح عقلاً أن يقدم المعذور ويؤخر من لا عذر له، وأن يؤخذ بالرخصة في حين أن الأخذ بالعزيمة ممكن.
وهذه الفتاوى نقرأها للفقهاء رحمهم الله في الكتب الصفراء وهي أقرب إلى الفرضيات، فكأنهم يقولون: لنفترض أنه ما وجد البصير، كما قالوا: لنفترض أنه ما وجد الرجل فيؤخذ بشهادة امرأتين، وعند أبي حنيفة لنفترض أنه ما وجد الولي فللرشيدة أن تتزوج من غير ولي، بمعنى أن الضرورة تقدر بقدرها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

مؤلف وشاعر وخطيب. صاحب كلمات النشيد الوطني الإماراتي، ومن الأعضاء المؤسسين لجائزة دبي للقرآن الكريم. شارك في تأليف كتب التربية الإسلامية لصفوف المرحلتين الابتدائية والإعدادية. يمتلك أكثر من 75 مؤلفا، فضلا عن كتابة 9 مسرحيات وأوبريتات وطنية واجتماعية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"